انفرط عقد قمة "الأمن والتنمية" التي عقدت في مدينة جدة السعودية، بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي وقادة مصر والعراق والأردن، ويبدو أن القمة والكلمات التي قيلت فيها من جانب القادة لم تأتِ مؤكِّدة لما تم تناوله في الإعلام عن بداية تعاون عربي إسرائيلي في مجال أمن المنطقة، وعلى ذلك كان المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية السعودي عقب القمة كأنه مراوغة سعودية لإخفاء ما تم خلف الكواليس.
لكن كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حملت إقراراً بأن "المنطقة تعيش فترة استثنائية" مع شجون وحنين لزمن ماضٍ فقدنا لحظة توهجه، عندما قال: "الأمن العربي لا يتجزأ"، وأعتقد أن إقرار السيسي وحنينه هو لب أزمة قمة "الأمن والتنمية" الذي لم يجفّ مداد كلماته بعد.
لغة الأرقام ودلالاتها لا تعرف المراوغة، حتى لو جاءت رمزية لأنها لغة جافة تعبر وتصف بدون عواطف ولا أحاسيس، وهذا ما ينطبق على ما حدث في قمة جدة، حيث إنها تنعقد بعد 67 عاماً بالتمام والكمال من قمة مشابهة، وهي قمة عرفت بحلف "بغداد المركزي"، وهو حلف هدفه الأساسي تكوين طوق حصار حول الاتحاد السوفييتي، بدأ بالعراق وتركيا، ثم انضمت إيران وباكستان وبريطانيا، وهو قائم برعاية أمريكا صاحبة الفكرة، التي وعدت بالدعم الاقتصادي والعسكري لضمان نجاح الحلف.
لكن الحلف بدأ يتداعى بسبب رغبة جامحة من الدول العربية، وعلى رأسها مصر، في تأكيد استقلالها الوطني، وعدم التعاون مع المستعمر القديم والحديث، وكذلك النأي بالمنطقة العربية عن فكرة التحيز لإحدى القوتين العظميين آنذاك.
وكان رفض مصر، ممثلة في جمهورية 23 يوليو/تموز 1952، واضحاً من مسألة الانضمام للحلف، وقد ساندت ثورة 14 يوليو/تموز 1958 في العراق على الحكم الملكي، بقيادة عبد الكريم قاسم، والذي أدى إلى انسحاب العراق من حلف بغداد المركزي، وهو ما أحدث شرخاً كبيراً فيه، أدى بعد مرور 29 عاماً إلى انفراط عقده بعدما حقق نتائج ضئيلة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران 1979.
ما بين بغداد وجدة
كانت الظروف المحيطة بفكرة قيام حلف بغداد تشي بأن العرب قوة ناشئة جديدة في عالم السياسة الدولية بأفكار ورؤى جديدة، وهو ما جعل فكرة الحلف تبتعد عن العرب ويكون الجوار الشرق أوسطي هو الفاعل الرئيسي فيه، ولكن في العام 1967 كانت الهزيمة العربية من إسرائيل ونهاية المشروع العربي الموحد هي ما أدخل المنطقة العربية في تبعية المستعمر الجديد "أمريكا"، التي شكّلت طبيعة السياسة العربية طوال السنوات التي تلَت هزيمة المشروع العربي.
استمر ذلك حتى قرر أن يخرج ذلك المستعمر من المنطقة عسكرياً وتنمويّاً، ويقيم بعد 67 عاماً بالتمام والكمال حلفاً جديداً شبيهاً بحلف بغداد بشكل جديد، ولكن بمفهوم قديم، ليكون بمثابة طوق آخر لتحجيم التمدد الروسي الصيني في منطقة الشرق الأوسط، للتفرغ لمواجهتهما في مناطق المحيط الهادئ ومناطق أخرى حول العالم.
لهذا نجد أن فرق 67 عاماً بين قيام حلف بغداد وقمة الأمن والتنمية بجدة فرق يحمل دلالات مهمة، فرق بين عرب أرادوا أن يمسكوا بزمام أمرهم ويستعيدوا حيويتهم وتاريخهم، وحركات تحرر وطني تُنبئ بمستقبل جديد للأجيال القادمة، وبين عرب ما بعد هزيمة 67، هزيمة المشروع العربي، والصراعات الداخلية والحروب الأهلية وغياب التنمية، وشعوب مأزومة.
نحن نعيش فترة "استثنائية" بسبب تغيرات جيوسياسية واستراتيجية كبرى، وأمانٍ باستعادة "أمن عربي موحد" نفتقد معظم مقوماته في اللحظة الحالية.
بايدن قال كل ما يريده قبل الوصول إلى المملكة
لقد جاء الرئيس الأمريكي، راعي فكرة تكوين تحالف شرق أوسطي، إلى مؤتمر جدة، وقد قال كل ما يريده من هدف زيارته للمنطقة في "إعلان القدس" بتل أبيب، حيث أكد على أهمية أمن إسرائيل وعدم امتلاك إيران للسلاح النووي، حتى لو باستخدام القوة، وإن تكوين تحالف دفاعي في المنطقة يشمل إسرائيل سيكون بمثابة درع ضد التهديد الإيراني. ولهذا جاءت كلمته في جدة عامة لا تحمل جديداً، وفي المقابل جاءت كلمات القادة العرب بمثابة مقدمي العرائض والشكاوى للمسؤول المختص، فتحدثوا عن مشاكلهم الداخلية وهواجسهم مغلفة بقضايا عالمية ليس لهم تأثير واضح فيها على مستوى العالم.
ولكن مع نهاية المؤتمر وصعوده سلم الطائرة الرئاسية عائداً إلى بلاده فقد حصل الرئيس الأمريكي على بعض المكاسب التي ستعزز موقفه انتخابيّاً في الداخل الأمريكي، حيث حصل على موافقة السعودية على فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية، وهو ما يُعد بمثابة مرحلة أولى للتطبيع السعودي الإسرائيلي، وكذلك الحصول على وعد سعودي بزيادة إنتاج النفط لقدرات 13 مليون برميل يومياً، وهو ما سيعزز من قدرة أمريكا على السيطرة على موجة التضخم التي تعانيها مع دول العالم. وكذلك تثبيت مفاهيم جديدة ورثها من سابقه الرئيس "ترامب"، وهي أهمية التعاون المشترك سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، الذي يشمل الدول العربية وإسرائيل وتركيا في الخلفية.
لكن اللافت هو عدم تطرقه لمسألة الدفاع بين العرب وإسرائيل، وأعتقد أنه تجنب ذلك لرفع الحرج عن القادة العرب أمام شعوبهم وجيوشهم، التي باتت تنتظر قراراً بتعاون مع عدو ما زال يمثل في العقلية العربية العدو الأول.
ويبدو أن الموضوع تأجل إعلانه خلف الكواليس، والاكتفاء حالياً بتثبيت مبدأ التعاون والشراكة وعدم الاعتراض على الاتفاقيات العسكرية الثنائية بين إسرائيل والدول العربية كالإمارات والبحرين مثلاً، وترك الأمور لحين توفر الظروف الكاملة لقيام تحالف كامل.
تحول كبير هنا
لقد أثبت مؤتمر جدة "للأمن والتنمية" بما لا يدع مجالاً للشك أن المنطقة تشهد تحولاً كبيراً واستثنائيّاً من حيث كونه يحاول كسر تابوهات وأسس للفكر العربي، وأن ما قامت عليه السياسة العربية والمصرية خاصة يعاني انكسارات حادة، فلقد تغيرت خريطة التحالفات وطبيعة التدخلات في المنطقة، وكذلك انحسار أفكار لصالح أفكار جديدة، وسقوط أنماط اقتصادية لصالح أنماط أخرى سائدة، كل هذا وسط تغيرات تُنبئ ببزوغ فجر نظام عالمي جديد.
ولكن هذا المؤتمر يحمل ملامح أساسية، تجعله وحلف بغداد يستقيمان على خط واحد، فالاثنان يحملان بصمات تعاون شرق أوسطي يخدم السياسة الأمريكية، ويحملان معاً فكرة التعاون الاقتصادي والعسكري، ولكنهما يتضادان في فكرة القبول أو الرفض، فقديماً رفض العرب فكرة الأحلاف متحدين حول مبدأ تحرير الأرض المغتصبة من إسرائيل، ولكن حديثاً يبدو أن هناك قبولاً من البعض، ورفضاً مبطناً على استحياء للتعاون الأمني والتنموي مع إسرائيل.
لهذا نستطيع أن نقول بكل أريحية إن مؤتمر جدة ما هو إلا إعادة استنساخ لحلف بغداد في ظروف مختلفة.
التعاون الأمني مع إسرائيل على مستوى الجيوش له عواقب وخيمة، حتى وإن أرادت القيادة السياسية للبلدان العربية ذلك، وهي ليست كالتعاون الاقتصادي الذي يتم معظمه في الخفاء، ولا بروتوكولات التعاون الأمني على مستوى أجهزة المخابرات، لأن الجيوش تمثل ضمير وعقل وسياسة أمة، ويستحيل تغيير أفكارها مرة واحدة على شاكلة الانعطاف المفاجئ، وهو ما سيجعل فكرة الانقلابات العسكرية أمراً شائعاً ومستساغاً في المنطقة، على شاكلة انقلاب الجيش بقيادة "عبد الكريم قاسم"، على وقع دخول العراق لحلف بغداد، وهو ما أُتبع بالضرورة بالخروج من الحلف.
ما القادم؟
أعتقد أن فكرة التعاون الأمني مع إسرائيل ستمضي قدماً عبر الاتفاقيات الثنائية، وستكون فكرة قيام التعاون الكامل مرهونة بمدى قدرة النظام الإيراني على الاندماج مع السياسة العربية في المنطقة.
وسيظل الإقرار بمرور المنطقة بمرحلة استثنائية واقعاً لا يمكن الفكاك منه، مع بقايا حلم متكسر لأمن عربي موحد يحمل بقايا زمن مضى أوانه، كان هو الحاكم لتصرفات العرب في المرحلة القديمة، على مستوى القوى التقليدية القديمة كمصر وسوريا والعراق على الأقل، التي ستكون مجبرة حالياً في فترات معينة على مسايرة الواقع بسبب ما يمر به من أزمات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.