في ثمانينيات القرن الماضي، وفي عهد اليتيمة، كنا ننتظر كل يوم أربعاء لمشاهدة فيلم غربي (أمريكي في الغالب مترجَم إلى الفرنسية..) ومن المشاهد التي سجلتها حينها لقطة فلاح أمريكي (أثناء عملية الحصاد) يحمل حفنة قمح بكلتا يديه، مخاطباً حفيده: "هذا سر قوة أمريكا"، حينها استغربت قوله لاقتناعي أن قوة أمريكا تكمن في أسلحتها المتنوعة الفتاكة، واليوم، ومع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تذكرت هذه الحكمة (وأظنني فهمتها متأخراً) حين برز احتمال وقوع أزمة غذاء بسبب توقف صادرات قمح روسيا وأوكرانيا التي تمثل معاً حوالي 30٪ من القمح المعروض للبيع في السوق العالمية.
وإن كانت روسيا وأوكرانيا أوقفتا تصدير هذه المادة الإستراتيجية تحت ضغط الحرب وظروفها، فإن القمح تاريخياً استُخدم كسلاح ضغط لترويض وكسر إرادة الشعوب والدول لمقاومة الهيمنة والاستعباد منذ القدم، ومن الأمثلة في تاريخنا الحصار الغذائي للعراق من قبل أمريكا وحلفائها لأكثر من عقد (قبل احتلاله في 2003).
وبما أن الغرب يصنفنا متمردين على نظام هيمنته (نحن على علم بذلك..) فالمشكلة ليست في أمريكا أو غيرها من دول الهيمنة، بل فينا نحن وفي اتكالنا على الغير (والعدو الحضاري منه خاصة..) للحصول على غذائنا، وكان من نتائج ذلك أن من السهل أن يفرض علينا هذا الغير التبعية بشروطه المذلة، ونفقد عندها سيادتنا واستقلال قرارنا السياسي، وأحسن مثال واقعي ما تعيشه سلطة أوسلو (ذل السؤال، قلة الحيلة والهوان..) عندما ظنت أن تحرير فلسطين يمر عبر الأكل من يد المحتل ووكلائه!
الأمن الغذائي لدى روسيا
التجربة الروسية غير مسبوقة، وتستحق التقليد. في تسعينيات القرن الماضي، عندما سقطت الإمبراطورية السوفييتية لم يكن ذلك بسبب نقص في السلاح والعتاد أو قلة في الجيوش والرجال، إنما السبب الأساسي هو انتصار قادتها للإيديولوجيا وإغفالهم الأمن الغذائي.
ولو تتبعنا تاريخ روسيا مع الغذاء من الاتحاد السوفييتي إلى اليوم نجد العجب، فبعد مجاعة مروعة (موت حوالي 10 ملايين من السوفييت) في عشرينيات القرن الماضي، تمكنوا من الاكتفاء ذاتياً (من القمح) في الستينيات، ثم عادوا فأهملوا الإنتاج الزراعي مرة أخرى، وأصبح الاتحاد أكبر مستورد للقمح في العالم، خاصة منذ السبعينيات حتى تفككه في 91.
لكن واقع اليوم يختلف تماماً؛ فروسيا (وريثة الإمبراطورية السوفييتية) تحولت من دولة فاشلة مذلولة تعتمد على القمح الأميركي لتغذية شعبها إلى أكبر مُصدِّر للقمح في العالم، بل تجاوز إنتاجها ما ينتجه الغرب مجتمعاً (الذي لطالما افتخر بتفوقه، ولطالما استعمل القمح في حروبه للسيطرة). وانطلاقاً من أن التجربة الروسية فريدة ولم يعرف مثلها على الأقل في التاريخ الحديث، وأن شعوبنا تعاني تهديد الجوع ونقص الغذاء، وأن أنظمتنا (ما بعد الاستقلال إلى اليوم) عاجزة عن حل أي أزمة من أزماتنا، وأن الحكمة ضالة المؤمن؛ فمن الواجب الدعوة لدراسة هذه التجربة واستلهام العبرة منها.
عندما تولى فلاديمير بوتين سدة الحكم في سنة 2000 وجد أن حكومته تستورد نصف احتياجاتها الغذائية من عدوه، فقرر بحس استراتيجي عميق تغيير واقع التبعية والاعتماد على الغرب بالسعي للاكتفاء الذاتي وتحرير السيادة الغذائية، والتي تعني استقلال القرار السياسي، ووضع هدف لتحقيقه عن طريق خطة علمية دقيقة وصارمة آتت أكلها في زمن قياسي، فبعد سنتين فقط تضاعف إنتاج القمح 3 مرات، ثم حقق هدفاً أسمى بأن أصبحت روسيا خامس مصدر للقمح في العالم بعد 5 سنوات فقط (أي في 2005)، وفي 2010 تضاعف الإنتاج ليصل إلى 60 مليون طن في إطار المرحلة الثالثة من خطته، وأخيراً في 2016 احتفل بوتين بأن أصبحت روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم (صدرت أكثر من 41 مليون طن) وأسمع العالم عبارته الشهيرة: "أصبحنا رقم واحد، لقد هزمنا الولايات المتحدة وكندا".
ومنذ 2016 إلى يومنا حافظت روسيا على صدارتها وتحولت إلى مرحلة استغلال القمح للهيمنة والتوسع، فنجد أنها:
١- حمت نفسها من السقوط في أيدي أعدائها مرة أخرى.
٢- كسرت احتكار أمريكا بيع القمح لدول الشرق الأوسط خاصة.
٣- بتخفيضها للأسعار سيطرت على جزء كبير من السوق التقليدي للولايات المتحدة والدول المصدرة الأخرى.
٤- بنفس الدناءة الغربية استعملت روسيا القمح لكسر إرادة التحرر (مثلاً في سوريا عندما تعجز قوة التدمير الهمجية عن حسم المواجهة كثيراً ما يستخدم بوتين القمح وتجويع المدنيين لمساومة المقاومين).
الأمن الغذائي في وطننا العربي
سياساتنا نحن مع الأمن الغذائي؛ الأمة التي من المفروض تُرشدها القاعدة القرآنية "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" تسلطت عليها أنظمة لا أظنها فكرت يوماً في ضمان أمن شعوبها وتحرير إرادتها السياسية، وإلا فبماذا تفسر سياساتها الفاشلة منذ الاستقلال إلى اليوم والتي تترجم في مجموعة المخططات والإجراءات العقيمة المتخذة في المجال الزراعي، والتي نجملها تحت العناوين التالية:
١- عدم كفاءة مسؤولينا وركونهم إلى الحل الساذج البسيط، فبدلاً من وضع خطط لضمان الأمن الغذائي بتحقيق إكتفاء ذاتي في المواد الأساسية نجدها تفضل الاستيراد بحجة أنه أقل تكلفة. وهذا ما حدث مثلا في الثمانينيات عندما شرعت الجزائر في مشروع إنتاج السكر (من الشمندر) وسجلت نسب نجاح مقبولة، أوقفوا المشروع بحجة أن تكلفة استيراد السكر أقل من تكلفة إنتاجه، غافلين عن أهميته الاستراتيجية حيث كان بالإمكان السيطرة على سوق السكر في الجوار الأوروبي والإفريقي، بالإضافة إلى تنويع مصادر العملة الصعبة، والغريب أن نفس الحجة -الساذجة- ساقها وزير مصري للتموين بقوله لماذا ننتج القمح ونحن نشتريه بتكلفة أقل من أن ننتجه محليا؟!
٢- انتصارهم لأمنهم الشخصي وأمن أنظمتهم على حساب أمن الأمة، وإلا فبماذا تفسر التصرفات المزاجية في قطاع الفلاحة كقطاع استراتيجي؟ فبعد الفشل الذريع لما سمي بالثورة الزراعية (في الستينيات والسبعينيات)، جاءت مشاريع متضاربة غير مستقرة ودون أهداف محددة، تخضع في الغالب لمزاج الحاكم، وأحسن صورة عن ذلك جسدها حكم بوتفليقة (في الجزائر) في كيفية توزيعه للأراضي والقروض الفلاحية على رجالات النظام في إطار الترضية الشخصية وتقوية محيط الولاء والنصرة.
٣- عدم اكتراثهم لصحة المواطن ولتوفير غذاء صحي لأبناء الشعب باعتمادهم على القمح الروسي الرخيص المعروف باحتوائه على نسب عالية من الحشرات والفطريات السامة.
٤- فهمهم المحدود للأمن وتبديدهم لمقدرات الأمة على محور واحد يقوم على مراكمة الأسلحة (التي يتحول أغلبها إلى خردة) دون حاجة حقيقية وواقعية لذلك.
لنحلم..
في الجزائر القارة مثلاً، وخاصة مع ما أنعم الله علينا من تنوع في الغطاء النباتي، وتباين في الأقاليم المناخية يمكن مع بعض الحس الاستراتيجي أن نكرر تجربة روسيا بأن ننتقل من التبعية الغذائية إلى الاكتفاء الذاتي في المواد الأساسية، ولمَ لا يتم التصدير وتزويد الجوار العربي والإفريقي على الأقل؟ ويكفي لذلك أن نعتمد سياسة واقعية واعية بالتحديات مبنية على أسس علمية يمكن أن نشير إلى بعض ملامحها وهي كما يلي:
١- العمل على التوسع الأفقي (زيادة المساحة المزروعة بالقمح).
٢- التوسع العمودي بالاستثمار في تكنولوجيا البذور غزيرة الإنتاج (تكثيف إنشاء مخابر ومزارع مختصة) والتي تتلاءم مع طبيعة المنطقة.
٣- دعم الفلاحين بالأسمدة الزراعية والقروض المالية والمعدات الزراعية (للزراعة والحصاد).
٤- الشروع في إنشاء بنى تحتية مناسبة (كافية وموزعة جغرافيا) لنقل وشحن وتخزين القمح.
٥- الانتقال إلى الاهتمام، خاصة بالمحاصيل الزراعية، التي لا ينتجها الغرب والتي تصلح عندنا.
بالإضافة إلى ضمان أمننا يسمح لنا ذلك بـ:
١- اقتصاد أموال طائلة نخصصها كل سنة لاستيراد الغذاء (مليارات الدولارات).
٢- تنويع مصادر العملة الصعبة والتحرر من التبعية للمحروقات.
٣- مساعدة محيطنا العربي في تحرير قراره السياسي.
٤- تقوية فرصنا في تحقيق سياساتنا ومصالحنا الاستراتيجية لدى جوارنا الإفريقي والأوروبي.
٥- تطوير باقي الشعب الفلاحية لارتباطها بالقمح (مصدر تمويل، علف لتوفير اللحوم، ..إلخ).
في ظل الاستبداد
قبل اطلاعي على التجربة الروسية في إنتاج القمح كنت مقتنعاً بأن لا أمل في تحقيق أي نجاح في أي قطاع، ما لم يسبقه تصحيح المنظومة السياسية. لكن مع بوتين النموذج الصريح للحاكم في الأنظمة الشمولية ونجاحه الباهر في تحقيق الأمن الغذائي، أصبحت أعتقد بإمكانية أن نحقق نحن أيضاً مثل هذا الهدف، لو توفر حد أدنى من كبار النفوس، واستبعدوا من بينهم صغار الفسدة واللصوص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.