تكلمت في السابق، وكذا في كتابي "الشفق"، عن الانحياز التاريخي في الأدب من باب ما يُسمى الرواية الوطنية. والرواية الوطنية صُنعت لتُمجّد مَرحلة تاريخية من تاريخ البلد، أو لتمجّد شخصيات أو أحداثاً مُعيّنة، أو أسرة حاكمة، وغيرها من الأمور التي تعمل على بناء لا وعي تاريخي جمعي لدى أبناء ذلك البلد، ولبعث روح الفخر وتعزيز الوحدة والتماسك الوطني فيهم.
سواء كانت الرواية التاريخية حقيقية أو محض خيال، فالنتيجة واحدة، بناء مخيّلة على أن تلك الأرض تحمل تاريخاً يفخر به الكبير والصغير، ومن هذا الجانب، لا يخلو بلدٌ من هذا، فلكل بلد رواياته التي تمجّد وتعظّم تاريخه، أو لنقل مرحلة أو مراحل متقطّعة من ذلك التاريخ. فالرواية التاريخية تختار بعناية تلك الأمور التي تريد إظهارها، والأخرى التي تريد طمرها، فلا يخلو بلد من نكسات وهزائم، فلا توجد قاعدة شاذة لهذه الحتمية التاريخية، بيدَ أن الرواية الوطنية لا تتعاطى مع هذا الجانب، وإن تعاطت، فسيكون من باب تمجيد البطولات كذلك، فتجعل الهزائم انتصارات من أبواب أخرى أيضاً. لهذا صُنعت الرواية الوطنية، ولو افترضنا أن بلداً اعتمد على التاريخ بجفائه وقسوته وحقائقه، لما قام لذلك البلد قائمةٌ، ولا افتخر أي شعب بوطنه إلا نزراً يسيراً.
وإن الرواية الوطنية تجمع ولا تفرّق، فهذا هو خيرها، فهي توحّد الشعب على كلمةٍ سواء، أبطالهم وقصصهم وتوسعاتهم محفوظة عند الصغار والكبار، وهذا ما يضفي الولاء المعنوي لتلك الأرض.
لكن الانحياز التاريخي مشاكله أكثر من حسناته، فإذا عطفت الرواية الوطنية وهي تأخذ حجماً أكبر من حجمها المعنوي داخل الشعب الواحد، فالانحياز التاريخي يطمس ويتعدى على شعوب أخرى بتاريخها وخصوصياتها. يحدث هذا عندما لا يتشبّع البلد برواياته المحليّة، أو عندما تتآكل الرواية الوطنية عنده، ولا يصبح لها تأثير محفز ولا مخدّر.
فيعمل صناع الروايات التاريخية على بعث الرواية من جوانب أخرى، وهي جوانب تُحيي وتُقدّس بعض الفترات التاريخية في نفوس تلك الشعوب، لإعادة ضخّ تلك الدماء المتكبّدة من جراء تكرار نفس الروايات، والإنسان والشعوب ملّالة الطبع، تستاء من التكرار، وصناع التاريخ لا يتوقفون عن تزيين التاريخ عن طريق رمي البدلات الجديدة عليه من حين إلى آخر.
والمعلوم أن لكل بلدان العالم فترات انكماش، وفترات توسّع، وقد يدوم الانكماش قروناً، والتوسع سنة واحدة، فيأخذ لصّ التاريخ تلك السنة ليجعلها رمزاً لتاريخ وطنه، وذلك عن طريق الاعتداء على الآخر، دون أن يذكر أن التاريخ كرٌّ وفرّ، إحجامٌ وإقدام، يومٌ يَحتَلّ، ويومٌ يُحتلّ. فقد عرف العالم إلى غاية ليلة الحرب العالمية الأولى توسع وانكماش كل الدول التي نعرف اليوم، فليس هناك دولة لم تعرف تفتحاً جغرافياً ولا تضييقاً، وليس هناك حالة شاذّة.
فإذا اعتمدنا على فترة زمنيّة معينة، وجمّدنا التاريخ عندها، فهذا يعد انحيازاً تاريخياً، والانحياز كما نعلم ليس من العلم والحقيقة في شيء، لأن الاستقرار ليس من سُنة الحياة، فالحياة دُول، ومن يعتقد أنه لا يدول مع التداول، فهو يرى نفسه أعلى من الحياة والمنطق والعلوم.
ثم إن لصّ التاريخ قد لا يتفطّن لفخّ الانحياز الذي يُسوّق له، ففترة الانفراج الجغرافي ليست من لدن العدم، فلا يخلو بلدٌ من التأثر الحضاري والثقافي والفكري، فقد يكون سبب ذلك الانفراج والتوسع حضارة أخرى، فيتناسى فضل التراكمات الحضارية التي احتضنها، وينسب الفضل لنفسه، وذلك التوسع غالباً لا يعود إلا ومعه ثقافات كل الجغرافيا التي توسع فيها، فلا يصبح أصيلاً كما ذهبَ.
وقد يتناسى لصّ التاريخ أن الخرائط لا تمثّل القِلاع، ولا تمثلّ الولاء، فلو أخذنا إمبراطورية فرنسا التي ابتلعت معظم أوروبا في فترة معينة، لم تجعل من الإيطاليّ والسويسريّ والبولوني والهولندي، ثم بعده الجزائري فرنسيين! ولو كان ذلك حقاً، لظهر عليهم من عاداتهم وثقافاتهم ولسانهم، سواء بالسلب أو بالإيجاب لنبقى محايدين تاريخياً.
فالتوسع المقصوص عن التاريخ الكامل وهمٌ لا يجب أن يُستعمل أبداً، فهو دليل على ضعف وقلة حيلة، واللجوء إلى فترات سحيقة اعتراف بنفاد الحِيل الحديثة، فالتاريخ لا يُستعمل بتلك الطريقة، وكسب ثقة الشعوب وتعزيز روحهم الوطنية لا تكون باستعمال العوامل والمؤثرات الخارجة على الحدود، فهذا يبرز التآكل الداخلي، ولا يزيد من الإحباط سوى إحباط أثقل، والواقع لا يُعالج بالفانتازيا ولا بتجميد فترة تاريخية، الواقع هو الحياة اليومية، هو الاكتفاء، هو الانحياز للحقيقة من حيث أتت، ببناء مشاريع، وتعزيز وحدة الوطن بروايات وتاريخ لا يمس الآخر، فالاكتفاء بالذات دليل قوة وعظمة وإن مستهم الأيام والسنون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.