هناك أشياء أكثر بساطة بكثير من تلك التي كانت تدفع أجاثا غريستي للتفكير في القتل تدفعني للتفكير في ارتكاب أبشع الجرائم. لستُ بحاجة للدخول إلى المطبخ والوقوف أمام حوض ممتلئ بأدوات الطعام المتسخة كي تطرق ذهني طريقة محبوكة لارتكاب جريمة قتل. يكفي أن أمسك بهاتفي وأنا ممددة مرتاحة على سريري وأتصفح وسائل التواصل الاجتماعي. أفتح فيسبوك وأقرأ التعليقات على منشور يتحدث عن جريمة تحرش رجل بفتاة في مترو، أو آخر يستدرج فتاة صغيرة لحوش عمارة، عن الفتاة التي قتلها أهلها شكاً في أنها بعثت بصور لجسدها للبلطجي الذي يهددها بها، وأخرى التي قتلت لأي سبب آخر. ففي الوطن العربي كل جريمة قتل مبررة، طالما أن المقتول هو أنثى.
التعليقات التي تنادي بعدم فضحهم وحرمة نشر الصور والفيديوهات التي توثق الواقعة. أرى كل هذا وأفكر في أننا بدأنا اليوم فقط في 2022 في التعرف على حوادث فردية لجرائم شنيعة. وأفكر في كل الجرائم التي حدثت على مر التاريخ ولم تصل إلينا حتى ولو بعد وقوعها لنتمكن من الحصول على حق الضحية ومعاقبة الجاني.
واحدة من تلك الجرائم العنيفة جريمة واحدة تمنيت بعدما عرفت تفاصيلها أن نتمكن من أخذ حق الضحية.. لكن للأسف لم يعد هناك مجال لشيء كهذا، إذ إنها حدثت قبل وقت طويل.. في عام 1919.
دولت فهمي.. المختلفة
لا أحب تيمة "الفتاة المتمردة"، ولديّ مشكلة مع الأفلام التي تعرض فتاة ما بمواصفات معينة باعتبارها مختلفة ومتفردة عن قريناتها من الفتيات. لا أحب مثلاً تيمة عرض الفتاة المختلفة باعتبارها الفتاة العاملة، باعتبار أن معظم الفتيات يسرن في المسار المشهور من تخرج في الجامعة ثم زواج وتكوين بيت وعائلة؛ لأني أعتبر هذه إهانة لربات البيوت، ولأننا لا نعيش في مضمار سباق أصلاً، ولا يكون الاختلاف دائماً هو الطريق الصحيح.
لكن في ذلك الزمن وفي هذا المقال أنا أحب أن أتحدث عن دولت فهمي باعتبارها فتاة "مختلفة" وفريدة؛ لأنها لم تكن من هؤلاء اللاتي يحاولن اختيار الاختلاف لأجل أن يكنّ مختلفات وفقط، ولم تكن تسير في الشارع تتحدث عن هذا الاختلاف أو تقلل من شأن البقية اللاتي لم يسرن على نفس دربها. ولأنها اختارت هذا الاختلاف بإيمان قلبها قبل أن تمنطقه بعقلها، ولأنها دفعت ثمن هذا الاختلاف غالياً جداً، وفقدت أغلى ما تملك في سبيله.. فقدت حياتها.
الآنسة دولت التي ولدت في قرية أبو عزيز بمحافظة المنيا في صعيد مصر ثم انتقلت إلى القاهرة كي تعمل في مدرسة الهلال الأحمر القبطية، ثم أصبحت وكيلتها، اختارت أن تكون مختلفة، فانضمت إلى تنظيم سري ثوري بقيادة عبد الرحمن فهمي وأحمد ماهر أطلق عليه جماعة اليد السوداء. كان هدف التنظيم هو تخويف الاحتلال البريطاني وقياداته، أحياناً بالتهديد وأحياناً باغتيال العساكر أو بعض القيادات، وفي هذا الوقت كان من المهم ألا يساند أحد قوات الاحتلال وألا يقبل أحدهم بتشكيل وزارة في ظل سيطرة الإنجليز على الحكومة. لكن ما حدث أن محمد شفيق باشا قَبِل أن ينضم للوزارة وزيراً للحربية، مما يعتبر خيانة للوطن.
لذلك فإن التنظيم السري (اليد السوداء) قرر اغتياله، وتم توكيل العملية بعد القرعة للشاب عبد القادر شحاتة ذي الواحد وعشرين عاماً لقتل الباشا.
تنكر عبد القادر في زي عامل عنابر ونفذ الخطة وتسلم القنابل والمسدس من زميله قبل ساعة الصفر. لكن ما حدث أنه بعد رمي القنبلة لم يُقتل الوزير. وحين هرع عبد القادر للخروج من الطريق الذي وُصف له سلفاً للهروب وجد أن أحد ضباط الحرس كان يلاحقه. وقد عرف مواصفاته، خاصة أن الطالب عبد القادر قد عرف عنه سلفاً الاشتراك في أنشطة ثورية من توزيع منشورات ومحاولة إشعال الثورة في المنيا. وحين تمكن من الوصول إلى نقطة محددة له سلفاً في خرابة يتمكن من الوصول لها عن طريق النزهة غيَّرَ ملابسه وأخذ مسدسه وأكمل طريقه، ليجد نفسه بعد ذلك في المدرسة القبطية محاولاً الحصول على مخبأ، فيجد يداً أنثوية تمتد له هي يد الوكيلة دولت فهمي لتأخذ سلاحه وتقوم بتخبئته.
تم القبض على عبد القادر شحاتة من قِبل قوات الإنجليز واعترف بمحاولته لاغتيال الوزير، لكن المحقق البريطاني لم يكتفِ فقط بهذا الاعتراف وأراد أن يعرف عمن كان خلف تنظيم هذه العملية، وحيث إن المحقق استطاع الوصول لمنزل عبد القادر والحصول على شهادة من زميل سكنه أنه لم يكن يبيت في منزله لعدة ليال تسبق عملية الاغتيال، فقد سأله عن المكان الذي كان يبيت فيه.
وهنا وصلت رسالة لعبد القادر بأن دولت فهمي العضوة في التنظيم السري ستقوم بإنقاذ المخبأ الحقيقي الذي كان يبيت فيه عبد القادر كي لا يفضح أمر التنظيم السري كله وتعترف أنه كان يبيت عندها. ولذا فإنه حين وصلت دولت لغرفة التحقيق اعترفت بأن عبد القادر هو عشيقها، وأنه كان يبيت عندها في السر حفاظاً على سمعتها كفتاة مصرية صعيدية قبطية. وحصلت دولت على تهديدات بتبليغ أسرتها بهذا الأمر لكنها لم تتراجع عن أقوالها.
تم استدعاء أهل دولت إلى النيابة لتنفيذ التهديد وتبليغهم بأقوال ابنتهم، فخرجوا من النيابة متوجهين إلى مسكنها لكن قابلوها بالترحاب والمحبة مما جعل دولت تظن أن أحداً لم يعرف شيئاً، لكن ما حدث أنهم اغتالوها!
تقول الروايات التاريخية للواقعة إنهم اصطحبوها معهم عائدين إلى المنيا لتقديم العزاء في خالتها التي ماتت تحت عجلات القطار، وحين وصلوا إلى المقابر في نفس الليلة التي وصلوا فيها إلى المنيا قاموا بقتلها.
دولت في الدراما والسينما المصرية
تم محاولة تجسيد قصة حياة الآنسة دولت مرتين، الأولى من إخراج إنعام محمد علي وتأليف عصام الحناجيلي في سهرة درامية من بطولة ممدوح علوان وسوسن بدر. في السهرة يتم تقديم القصة الحقيقية للآنسة دولت عن طريق الآنسة سوسن.
والثانية منذ أسبوع حيث تم عرض فيلم كيرة والجن من تأليف السيناريست أحمد مراد وإخراج مروان حامد. وهو تحويل لرواية 1919 حيث يتم تخصيص خط درامي لسرد حكاية الآنسة دولت فهمي لكن بشكل بعيد عن الحقيقة.
ففي الفيلم يتم تقديم عبد القادر شحاتة على أنه عبد القادر الجن، شاب طائش لا يسعى سوى للحصول على المزيد من المال والخمور حتى لو يعني ذلك أن يضع يده في يد الاحتلال، لكنه يفيق عندما تهب الثورة ويجد أباه مقتولاً ببدلة جيش عرابي على يد واحد من قوات الاحتلال فيقرر أن يغتال من تسبب في ذلك؛ حيث تتقاطع أقداره مع جماعة التنظيم السري، وهنا يقع في حب الآنسة دولت التي تحاول أن تثنيه عن حبه ذلك؛ نظراً لاختلاف الأديان والثقافات بين القاهرة والصعيد لكنها تستسلم لحبه في النهاية وترقص معه في بدروم مقهى ريش في مشهد بديع يصوغ الجانب الرقيق للأنثى الصعيدية من الشدة والقسوة إلى الهشاشة والدلال بين يدي رجل تحبه.
وعليه، فإن في الفيلم دولت فهمي تنقذ حبيبها فعلاً غير أنها فعلياً كانت لا تزال شريفة. هذا إذا كان الشرف شيئاً عضوياً هشاً وقابلاً للنزع ببساطة انتزاع شيء رقيق كغشاء البكارة.
كانت هذه هي دولت فهمي، السيدة المصرية التي كانت تضحيتها مختلفة، فليست تضحية بروحها فقط أو عمرها أو مالها، وإنما بسمعتها كذلك لتنقذ مقاوماً حاول أن يعجل يوماً برحيل الاحتلال عن بلاده، كما كانت هي الأخرى تحاول.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.