لم يشفع تاريخ الرئيس السريلانكي غوتابايا، وشقيقه ماهيندا رئيس الوزراء، لهما بشيء، ورغم شعبية ماهيندا الجارفة؛ نظراً لدوره الكبير في القضاء على تمرّد ثوّار التاميل عندما كان وزيراً للدّفاع وقائداً للجيش عام 2009 ورئيساً للبِلاد بعد ذلك حتى عام 2015 فإن الشعب السريلانكي اقتلعهما من قصر الحكم ووثقت الكاميرات هروبهما نحو باخرة في أحد الأرصفة.
صنع ماهيندا لنفسه تاريخاً لن تمحوه الأزمة الحالية؛ حيث أصبح زعيماً قومياً عندما ساعد جيش بلاده في الانتهاء من حرب التاميل وهم أحد مكونات سريلانكا وكذلك جنوب الهند.
لكن ثورة الجياع في سريلانكا تجاوزت تلك الاعتبارات وتجاوزت التاريخ لأنه لن يوفر لهم الأكل والشرب والعلاج والكهرباء.
الشعب السريلانكي في غالبه شعب طيب، وقد زرت هذه البلاد عدة مرات لظروف العمل وتعاملت مع البسطاء من سائقي التاكسي والبائعين وفي المطاعم وكذلك على الكورنيش وبقي في ذاكرتي العديد من المواقف التي استحضرتها عندما شاهدت ثورة ذلك الشعب البسيط وغير العدائي واجتثاثه للحاكم من قصره، فكيف تحوّل ذلك الشعب البسيط إلى شعب ثائر لا يخشى شيئاً؟
بدأت الأزمة في سريلانكا تدريجياً منذ سنوات حين تراجعت الدولة كثيراً في استثمارها للعديد من الموارد والثروات الطبيعية التي تمتاز بها البلاد، وأبرزها مثلاً الزراعة، فقد أصبحت تعتمد كثيراً على الاستيراد، وعلى سبيل المثال تستورد القمح الذي يزرع في جنوب الهند وهي مناطق نسخة طبق الأصل من أراضي سريلانكا من حيث الطبيعة الجغرافية وكذلك من ناحية المناخ.
وقد حاول وزير خارجية أمريكا استغلال هذه النقطة في تغيير الحقائق عندما خاطب الرأي العام الغربي قائلاً إنّ منع روسيا لتصدير القمح الأوكراني هو أحد أسباب ما يحدث في سريلانكا، وهذا الكلام مجرد هراء من دولة اعتادت الظلم ونشر الفوضى في العالم فقط من أجل مصالحها.
وصل الحال مؤخراً في سريلانكا إلى مراحل لا يمكن الصبر عليها من حيث عدم القدرة على إنتاج الكهرباء وعدم وجود رواتب وعدم وجود مخزون كافٍ من الأكل حتى أصبح كثير من المواطنين لا يستطيعون توفير وجبة أكل واحدة يومياً لأبنائهم، وانهيار النظام الصحي!
انهارت الدولة بمعنى الكلمة من أعلى مستويات الحكم فيها وقد لا تتعافى بسهولة، ولكنها ستتعافى ولو بعد حين بعد أن يَعتبِر قادتها من الدروس التي أوصلت البلد لهذه الحال وهو الذي يستطيع أن يكون مستقلاً اقتصادياً كما هو حال العديد من الدول المشابهة له في شرق آسيا؛ مثل تايوان.
أولى خطوات العودة للطريق الصحيح تأتي من الداخل والاستفادة من إمكانيات الوطن من ثرواته الطبيعية والبشرية بعيداً عن القروض التي تأتي من الخارج وتَفرض لاحقاً استعماراً باطنياً، واستثمار إمكانيات أي بلد لا يتوافق مع وجود منظومة فاسدة تدير الأمور لمصلحتها الخاصة بعيداً عن مصلحة الوطن.
يعاني مواطنو معظم الدول العربية من الأمور نفسها التي عانى منها المواطن السريلانكي في السنوات الماضية، ولكن الحال لغاية الآن لم يصل إلى المستوى نفسه من المعاناة، واستمرار الأزمات بدون حلول حقيقية تعتمد على ثروات البلد وليس على جيوب المواطنين سيؤدي لا محالة إلى نفس ما حصل في سريلانكا.
وتعتبر الأسواق العربية إحدى أبرز الأسواق العالمية في استيراد القمح وغيره من المنتجات الأوكرانية، ورغم أن الحرب قائمة منذ أشهر فإننا لم نسمع عن استراتيجيات حقيقية لمواجهة هذه الأزمة بحلول داخلية من خلال إعادة الاعتبار للمزارع وقطاع الزراعة، بل إن ما أعلنت عنه بعض وسائل الإعلام لا يتعدى البحث عن استيراد القمح من مصادر أخرى!
من ناحية أخرى، فإن أحد أسباب تراجع اقتصادات بعض الدول العربية هو استمرار التعاون والتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يزيد في إغراق الدول العربية بالديون من خلال وجود داعميه في أكبر المؤسسات المالية في العالم، وبالتالي التبعية للدول الامبريالية الراعية لوجود الكيان في المنطقة.
إنّ ما يجري في سريلانكا هو انهيار وطن وتوقف عجلة الحياة فيه، وهذا أخطر مستوى قد يصل إليه أي بلد، وهي فرصة جديدة للكثير من البلدان التي تعاني من الفساد وضعف الاقتصاد لأخذ الدروس والعبر قبل أن تقع الفأس في الرأس والوصول لنقطة اللاعودة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.