نجلس حول جارتنا الحاجة حليمة ونحن صغار، تحكي لنا عن نجلها مصطفى المجند بالقوات المسلحة في منطقة العريش، المفقود منذ 7 سنوات، وأنها لديها الأمل في عودته، وأنها تنتظر عودة الغائب، وتحكي لنا الحكايات أن ابنها بالتأكيد تزوج هناك ويعمل مع بدو سيناء في رعي الأغنام، وهو يختبئ من الإسرائيليين بعد نكسة 1967، وكانت تنتظر ابن عمتي لزيارتنا الذي كان يخدم في قوات المظلات واستشهد زوج أخته في العريش.
كان يؤكد لنا أنه في اليوم السابع لحرب يونيو/حزيران المعروفة بحرب الستة أيام جاءت لهم الأوامر بالانسحاب إلى قناة السويس، وأثناء عودته بالقرب من مطار العريش تقابل مع الشهيد محمد فرج، زوج أخته، والشهيد مصطفى غازي جارنا ابن الحاجة حليمة، وهم يستعدون للانسحاب والعودة إلى قناة السويس، وأثناء عودته سمع أن الإسرائيليين من قوات الكوماندوز حاصروهم، وتمت تصفيتهم واستشهدوا جميعاً.
رغم تأكيده لرواياته، ظلت خالتي حليمة على أمل بعد حرب أكتوبر تنتظر عودة الابن الغائب، وتقول لنا إن ابنها تزوج من عرب سيناء، وأبناؤه وزوجته من بدو سيناء، وتحكي لنا بطولات خيالية عن ابنها حتى وافتها المنية عن عمر ناهز الـ90 عاماً.
ففي عام 1995 أرسلت كلٌّ من "جريدة الأهرام المصرية وجريدة الجمهورية بعثة استكشافية في سيناء المصرية، أكدت العثور على مقبرتين جماعيتين، يروي شهود عيان أنهما تضمان رفات أسرى حرب مصريين عزل، قُتلوا برصاص جنود إسرائيليين في حرب عام 1967، في قاعدة جوية قرب مدينة العريش المصرية التي تقع على ساحل البحر المتوسط".
والذي أكد الرواية لنا ابن عمتي من قرية شبراهور السنبلاوين قبل سنوات. وحسب ما جاء من شهود عيان من بدو سيناء وأهالي العريش أن جنود الاحتلال كانوا يأمرون الأسرى بحفر قبورهم بأيديهم والانبطاح على الأرض، ثم تسير الدبابات فوقهم. وقال شهود العيان إن حوالي 70جندياً مصرياً تم أسرهم بالقرب من القاعدة الجوية بالعريش بعد أن رفعوا الرايات البيضاء.
ورغم ذلك طلبوا منهم الانبطاح على الأرض والنظر إلى البحر ناحية الشمس في انتظار سيارات لنقلهم، وأطلقوا عليهم جميعاً النار بصورة وحشية. ولم يرحموا المدنيين العزل الذين كانوا من عمال التراحيل، حوالي 45 شخصاً، وأطلقوا عليهم النار، ودفنوا في مقابر جماعية حفروها بأيديهم، قتلوا وهم لم يحاربوا من الأصل، إنها الحقيقة التي فجَّرها فيلم الأسرى "روح شاكيد"، الذي عرضه التلفزيون الإسرائيلي، وهو من الأفلام الوثائقية.
وتضمّنَ الفيلم كيفية تصفية الأسرى المصريين في حرب عام 1967 في شبه جزيرة سيناء وداخل السجون الإسرائيلية، وتحدث في هذا الفيلم الوثائقي عدد كبير من الجنود الذين خدموا في صفوف وحدة "شاكيد"، ومنهم من تولى حقائب وزارية بعد سنوات، وكشفوا عن عمليات القتل التي قاموا بها "بدم بارد" ضد جنود من وحدة "الكوماندوز" المصرية، وهم في طريق انسحابهم للغرب داخل سيناء، بعد توقف القتال.
وخلال فيلم روح شاكيد تحدث عدد من الجنود الذين خدموا تحت قيادة "بنيامين بن إليعازر"، وزير البنية التحتية الإسرائيلي السابق، أنهم قتلوا الجنود المصريين مدفوعين بشهوة الانتقام، وتنفيذاً لتعليمات عسكرية من قادتهم. وتخلل الفيلم مقاطع وثائقية مصورة تظهر إطلاق النار على الجنود المصريين، رغم كونهم مجردين من الأسلحة، أو رافعي الأيدي وهم على الأرض.
إن شهادة الباحث الإسرائيلي، أرييه يتسخافي، الأستاذ بجامعة "تل أبيب" شهادة موثقة على جرائم حرب بشعة من القوات الإسرائيلية على ارتكاب جريمة قتل حوالي 900 جندي مصري بعد استسلامهم خلال هذه الحرب. وأكد أن المذبحة جرت في منطقة العريش بشبه جزيرة سيناء، حيث أجهزت وحدة خاصة على حوالي 300 جندي مصري ومجموعة من كتيبة الفدائيين الفلسطينيين على الحدود المصرية.
ورغم أن الجانب الإسرائيلي حاول تبرير ذلك بأنهم فلسطينيون وليسوا مصريين، بعكس ما جاء في الفيلم الوثائقي، وأكد بالصوت والصورة وقوع مجزرة ضد جنود مصريين عقب انتهاء القتال في يونيو/حزيران 67. وكان "بن أليعازر" قد أصدر بياناً بعد الضجة التي أثارها الفيلم في مصر وخارجها حينها، نفى فيه تورطه ووحدته بإعدام 250 جندياً مصرياً في حالة غير قتالية، وزعم "بن أليعازر" أن وحدة "شاكيد" التي تولى قيادتها وقتذاك لم تقتل جنوداً من الأسرى المصريين، إنما قتلت 250 جندياً فلسطينياً من لواء الفدائيين.
إننا أمام وقائع حقيقية جديدة من فيلم وثائقي ينتهك ويوثق جريمة من جرائم الحرب، وضد مبادئ القانون الدولي، وفي المقابل تتضارب اعترافات إسرائيلية مختلفة.
إن الملف يحتاج إلى تحريك دولي بعد وصول تقرير إلى وزارة الخارجية المصرية عن اكتشاف مقبرة جديدة لرفات 80 من الجنود المصريين مطلع هذا الأسبوع، وتنتظر الخارجية المصرية وصول التقرير عن المقبرة الأخيرة. وهنا يُطرح سؤال، لماذا أعلنت إسرائيل عن الجريمة الآن، في ظل تقارب عربي-إسرائيلي من بناء حلف ناتو عربي-إسرائيلي، والتطبيع، وفي ظل الأزمة العالمية؟
هل إسرائيل لديها قناعة أن مصر لا تستطيع في الوقت الحالي بسبب أزمتها الاقتصادية التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم كمجرمي حرب؟ علماً بأن هذه الجرائم لا تسقط بمرور الزمن أو التقادم، و"ليتذكر الإسرائيليون أن جرائم النازي ضدهم إذا كانت لم تسقط حتى الآن من ذاكرتهم، فإن جرائمهم لن تسقط من ذاكرة الشعب المصري وأمته العربية" في ضرب مدرسة بحر البقر وسجن أبي زعبل والمدن المصرية وجرائمهم بحق الأمة العربية، وفي عهد الرئيس الراحل حسني مبارك حين نوقش فتح ملف الأسرى المصريين، كان رد إسحاق رابين إنها "سقطت بالقانون الإسرائيلي"، ولا عزاء للحاجة حليمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.