يتحدث المفكر "مالك بن نبي" عن مشاهدته لمسرحية مقتبسة من روائع ويليام شكسبير، وعن تأثيرها في السينما الأوروبية، وخاصة لحظة وصولها إلى حل عقدتها، عندما يقتل البطل صاحبته ثم ينتحر.
ويذكر أن هذا المشهد قد ركز المخرج فيه كل عبقريته، ليثير وجدان المتفرج بأعظم قدر من الانفعال، ثم يعلق بن نبي بأن هاته العبقرية أوروبية والمتفرج أوروبي، وينتميان إلى الثقافة نفسها الضاربة في عمق الوجدان الأوروبي.
بينما لو كان المتفرج مسلماً، ربما نجده يضحك حيث يؤدي بالمتفرج الأوروبي إلى البكاء، ليس لأن المسلم ليس لديه حساسية وعاطفة، وإنما المتفرج الأوروبي يفكر في جو من "الحساسية الجمالية"، (أليس يرى نهاية مخلوقين جميلين). بينما المسلم في جو من "الحساسية الأخلاقية"، فهو لا يرى في المشهد سوى (قاتل ومقتول). ومن أجل ذلك لا يمكن أن يتشابه سلوكهما أمام المشهد الواحد.
هاته الثقافة التي يُعرّفها مالك بن نبي بشكل مبسط، عندما يقول: "إن الطبيب الإنجليزي يمكن أن يلتقي مع الراعي الإنجليزي في الثقافة ويحدث ذلك التجانس، بينما لا تجد تجانساً بين طبيبين أحدهما عربي وآخر إنجليزي من نفس صف الدراسة".
ومن هنا تبدو أهمية التعرف على الفروق بين ثقافات الشعوب وما يؤثر فيها.
فثقافتنا الإسلامية تقدم الأخلاق على الجمال، وتقترب إلى نزعة الأدب الملتزم، بينما الثقافة الأوروبية تقدم الجمال على الأخلاق، وتتجه نحو الفن والذوق.
أعتقد أن نقطة الالتقاء بين الثقافتين هي التوليفة التي يمكن أن تصنعها الثقافة الإسلامية بين المبدأ الأخلاقي والتوجه الجمالي. فقد أغفل الفكر الإسلامي النزعة الجمالية في أخلاقنا، والذوق في آدابنا العامة. فصار التباين بين الثقافات في غياب التوليفة التي ذكرناها، حائلاً دون الوصول إلى روح الإنسان الغربي وملامسة وجدانه بكل ما نملك من حق ومنطق. ونحن على يقين أن سوي القلب أقرب إلى الفطرة وإلى الإيمان، و"لا يقبل الكفر إلا صاحب نفس منكوسة". وقد أطلق العقاد على الشيوعية بأنها "مذهب ذوي العاهات".
لقد استعاض الغرب عن فراغه الروحي وهبوطه الخلقي وقسوته بالنزعة الجمالية، فحرص على الآداب، ونمى أذواق الناس، وسخّر كل آيات الجمال ليسوِّق إلى منتجاته الفكرية والثقافية، واستغل المرأة التي شكلت مادته الأساسية، فاحتل الساحات وملأ فراغات القلوب.
وعمد إلى إعطاء صورة مشوهة للإسلام في الضمير الجمعي الغربي. من خلال الوحش العاتي المتمثل في الآلة الإعلامية التي تفترس الحقائق افتراساً.
وإن الرجل في الغرب ليس لديه الوقت ولا الفضول للتحقيق فيما يسمع ويرى، ولا يتأثر بدفاعاتنا ولا يقنعه منطقنا، فلديه منطق آخر في نظرته للأشياء، مستمدة من ثقافته وتاريخه.
ولكنه ينْتَبه من شوارعنا وأسواقنا، وإلى فوضى عمراننا التي تفتقد إلى الحس الجمالي، وإلى آدابنا التي تفتقد إلى الذوق الراقي.
وينظر إلى فقرائنا في ألبستهم البالية، والمتسولين كأنهم "كومة من التراب"، والمجانين يسيرون كأنهم "كمية من القاذورات" تقذف بها الريح. وحتى أبنائنا في مدارسنا في ملابس لا تتسم بالتناسق ولا بالأناقة.
بينما المتسول في الصفة الأخرى نضيف وأنيق، تجده يحمل قيثارته، فيثير اهتمام المارة، ويحرك مشاعرهم، ودون شعور تمتد أيديهم إلى جيوبهم، فلا تشعر بأنه متسول وإنما يقدم خدمة للناس. والتلميذ عندهم كأنه أستاذ صغير في أناقته وأدبه، وبناياتهم مزينة ومتناسقة ومتكاملة.
ونحن في أحسن الأحوال نحافظ على بيوتنا وسياراتنا من الداخل، ونرمي بالقاذورات من النوافذ في الشارع، ونحافظ على بعض النظافة في متاجرنا، لكن أسواقنا تحيط بها القمامات (سلعة المتسولين)، يحومون حولها في منظر تعيس يهوي بكرامة الإنسان، وتهوي معه كرامة الوطن.
ولطالما صورت لنا السينما الإنسان العربي على أنه الرجل العنيف، وأنه إنسان أبله وغبي ومتسخ، بالمقابل تظهر الرجل في الغرب بأجمل الصور التي تجمع بين الأناقة، والذوق الجميل والحس المرهف.
والغرب لا ثؤثر فيه الأخلاق، كمظاهر الحياء ومعاني العفة وغض البصر، ولا حتى كثير من القيم التي يعتبرها قيوداً وتعدياً على الحريات، ولكن يؤثر فيه التماسك الأسري الذي يفتقده في بلاده، ولذلك تجد الشرطي في بوابة الخروج من مطار باريس يسألك: (طبعاً ستقيم عند العائلة).
وتؤثر فيه الإضافة التي يمكن أن نقدمها من خلال الإبداع والتألق في الفن والرياضة والعلم، والتي يمكن أن نلامس أذواقه ونصل إلى وجدانه، من خلال "التوليفة بين الجمال والأخلاق"، بكلمة من رياضي متألق معتز بانتمائه يحمل هم أمته، عن التنمية والعدالة الإنسانية بين شعوب الجنوب والشمال، ومن خلال أغنية تروي حكاية استغلال الأطفال في الحروب، أو مصور مبدع لمشهد لامرأة مزقتها الشظايا وابنها الرضيع يلتهم من صدرها الحليب مع الدم. في صورة فنية تختصر مأساة الحروب. وتكشف حقيقة حضارة الضفة الأخرى.
"فلا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل".
"ولا يمكن للخير أن يكون منفصلاً عن الجمال".
"إن الله جميل يحب الجمال".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.