هكذا تسببت هزيمة ألمانيا بالحرب العالمية في نشأة أهم مدرسة فلسفية في التاريخ الحديث

تم النشر: 2022/07/10 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/10 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش
رواد مدرسة فرانكفورت/ مواقع التواصل - أرشيفية

لنقل بادئ ذي بدء أن المقصود بـ"مدرسة فرانكفورت" هي باختصار تلك الحركة الثقافية التي ظهرت بألمانيا، والتي جاءت أفكارها كانعكاس مباشر للأوضاع التي كانت تعيشها هذه الأخيرة، فعبرت عن مواقفها إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، معتمدة أساليب نقدية حديثة ومعاصرة، وقد نمت هذه الحركة لترتفع إلى مستوى "المدرسة" التي تستقطب نخباً من المفكرين والفلاسفة من مختلف أنحاء المعمورة، فتطورت رؤاهم وتوسعت مجالات اهتمامهم، لتصل إلى القضايا الكبرى التي تهم الإنسان بشكل عام.

ولذلك عمد المؤرخون لتاريخ الفلسفة المعاصرة إلى تقسيم المراحل التي مرت بها "مدرسة فرانكفورت" إلى ثلاث مراحل رئيسية، عرفت كل مرحلة بروز جيل جديد، استفاد فيه الجيل اللاحق من الجيل أو الأجيال السابقة، سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية تأثر بعض المفكرين من جيل معين بجيل آخر، وبالتالي السير على منواله في بعض مواقفه، أو نظرنا إليه من ناحية النقد الذي وجهه بعض المفكرين المتأخرين (زمنياً) إلى آخرين متقدمين من نفس المدرسة. فما هي الظروف العامة التي ساهمت في بلورة مشروع هذه المدرسة؟ وما هي الحدود الفاصلة لتمييز كل جيل من هذه الأجيال عن الجيل الآخر؟

الجيل الأول: الصبغة الماركسية-الفرويدية

من نافل القول أن ظهور "مدرسة فرانكفورت" جاء نتيجة لسياق تاريخي مأزوم، وفي ظل واقع عام شهد فيه العالم حربين طاحنتين (الأولى من 1914 إلى 1919 والثانية من 1939 إلى 1945)، فألمانيا التي ما كادت تستفيق من هول الحرب العالمية الأولى وتستوعب مخلفاتها، حتى وجدت نفسها مرة أخرى متورطة في حرب عالمية ثانية أشد فتكاً من سابقتها، كان ذلك كفيلاً بتوليد نوع من الشعور بالضياع، وإيذاناً لكونها سائرة نحو مصير مجهول، حيث دخلت في دوامة من القلق الوجودي عبر عنه كارل ياسبرس قائلاً: "لقد فقدنا كل شيء تقريباً، وضعنا الإقليمي، وقوتنا الاقتصادية وسلامتنا الجسدية، والأسوأ من هذا كله المعايير الملزمة والتي تقرب الكرامة الأخلاقية من المشاعر لتكوين شعب، لقد اختفت حكومتنا بدون أية كلمة، لم تعد الأمة الألمانية موجودة، وصار علينا أن نلتمس الإذن من أجل أدنى تصرف". يصور لنا هذا النص مشهداً بانورامياً لما آلت إليه أوضاع الأمة الألمانية في تلك الفترة، حين ألفت نفسها كذات "مهملة"، فقدت جل مقوماتها الاقتصادية وقوتها العسكرية وريادتها الفكرية والفلسفية…إلخ. 

فلم يكن إذاً- والحال هذه- أمام "الروح الألمانية" من خيار سوى رفع التحدي، ومن ثم العمل من جديد ضمن استراتيجية واضحة المعالم، قائمة على أساليب تقنية حديثة، فانبرى لتلك المهمة مجموعة من المفكرين والباحثين أمثال ماكس هوركهايمر وغيره. فأسسوا حركة فلسفية جديدة ذات رؤية نقدية تلتقي في صميمها مع الإرث الألماني عامة، هذا الأخير الذي طالما ميز "الفلسفة الألمانية" عن غيرها من الفلسفات الغربية الأخرى، وبوأها- على مر العصور- مكانة فكرية خاصة ومتميزة عن الأمم الأخرى، ونخص بالذكر هنا استنادهم على أسس الفلسفة الجدلية الماركسية، والتحليل النفسي الفرويدي، والنقد الكانطي.

انطلقت هذه الحركة بادئ الأمر من مدينة "فرانكفورت" الألمانية سنة 1923، بقرار من وزارة التربية آنذاك، وبدعم مالي من ج. ويل، وبذلك نشأت فكرة "مؤسسة دائمة للدراسة النقدية للظواهر الاجتماعية"، تحمل كارل كرونبورغ مسؤولية المؤسسة إلى غاية سنة 1930 ثم تحول الإشراف بعد ذلك إلى ماكس هوركهايمر باعتباره المؤسس الفعلي للفكرة.

وقد ناقش الدكتور محسن الخوني في أطروحته التي تقدم بها، والتي تحمل عنوان "منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت"، كيف استقر لقب "مدرسة فرانكفورت" على هذه الحركة، حيث أشار إلى أن المعهد في بداية تكوينه وإنشائه، كان يعرف باسم "مركز البحوث الاجتماعية"، ثم أطلق عليه ماكس هوركهايمر حسب الأفق العلمي الذي عمل المعهد على أخذ مسؤوليته، مختصراً ضمنه لفظتين أرادهما أن تعبرا عن اهتمامات المعهد بشكل جامع ومركز فوجد لذلك عبارة "النظرية النقدية théorie critique".

وبما أن المعهد انصبت جهوده في البداية على إنتاج أفكار وآراء فقط، حول موضوعات وقضايا معينة تهم المرحلة بإشكالياتها المتعددة، فلم يكن ليرتقي إلى مفهوم "المدرسة" بمعناها الدقيق، ولم يتصف بهذه الصفة إلا فيما بعد.

قام مشروع "مدرسة فرانكفورت" منذ نشأته على نقده لمشروع التنوير بوصفه ركيزة من ركائز الحداثة الغربية، وفي هذا الإطار يقول بومنير كمال إن "النظرية النقدية منذ نشأتها في الثلاثينيات من القرن العشرين قامت بنقد جذري لمشروع التنوير بما هو رمز الحداثة الغربية، وهذا ما يظهر بصورة جلية في كتاب "جدل التنوير" الذي كتب بالتشارك بين ماركس هوركهايمر وزميله تيودور أدورنو، ويعتبر هذا الكتاب- بإجماع الباحثين المختصين في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت- أهم نص فلسفي ممثل لها وخاصة في جيلها الأول.

ومن المعلوم أن التنوير بأوروبا منح اهتماماً كبيراً للإنسان، فكان هدفه الأول والأخير هو تحرير الكائن الإنساني من الخوف وجعله سيد نفسه، وكذا عمد إلى تكريس ملكة النقد وإخضاع كل المعارف إلى حكم "العقل" الذي عده ديكارت "أعدل قسمة بين الناس"، ومنه تمخضت أهم نتائج عصر التنوير والتي تمثلت في "تطور النزعة العقلانية، التي كانت تجسيداً للتقدم والتطور الفكري والاجتماعي، وكذلك الاقتصادي والسياسي، الذي واكب التحولات البنيوية التي حدثت في أوروبا، والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة، وأكدت على احترام العقل، بل تقديسه، ونبذ الفكر الميتافيزيقي والأسطوري، وناضلت ضد الأيديولوجيا الإقطاعية [القروسطية] والكنيسة، وعملت من أجل سيطرة العقل لقدراته على إدراك وفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية".

لا مراء أن هذه الثقة في العقل جعلت من إنسان التنوير واثقاً في نفسه، وأحس بأن قيمته تكمن في نفسه وأنه بذلك قادر على توليد منظوماته الأخلاقية، اعتماداً فقط على عقله لا خارجه، وهذا ما خلق له نوعاً من "التمركز حول الذات"، وبالتالي تفاؤله بكونه مركز الكون.

فإذا كان العقل الغربي قد أوجد حضارة متقدمة قوامها التقدم العلمي، فإن توظيف هذا العقل توظيفاً خاطئاً وانفصاله عن الحياة نفسها، وتصوره أنه النموذج الأوحد جعله يثمر حضارة عقلانية غير إنسانية، أوقعته في أزمات اللاعقلانية بصور وأشكال مختلفة. فالتنوير بهذا المعنى في نظر هوركهايمر وأدورنو يُعتبر ظاهرة تسلطية شمولية، ونوعاً جديداً من الاغتراب. فكان ذلك مدخلاً لطرح مواقفه وأفكاره التي تشبعت إلى حد كبير بالنظريات الماركسية والتحليل النفسي الفرويدي.

وعملت على توجيه سهام النقد لذلك التدمير الذاتي الذي يمارسه العقل خلال مرحلة الوضوح الزائف المتعين في الفكر العلمي والفلسفة الوضعية للعلم، حيث يظل هذا الوعي العلمي الحديث بمثابة المصدر الرئيسي للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له، "تغرق البشرية في نوع جديد من البربرية بدل أن تدخل في حالة إنسانية حقيقة".

وسيعمل مفكرو الجيل الثاني من داخل نفس المدرسة على نقد أفكار الجيل الأول ومساءلة آرائهم ومواقفهم، في سياق النقد ونقد النقد، وعلى رأسهم صاحب "الفعل التواصلي" ورائد من رواد الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت يورغن هابرماس. (والذي سيكون لنا وقفة معه). وهنا سيكون علينا الوقوف عند الجيلين الآخرين اللذين تليا الجيل الأول، حتى تتضح الخطى وتكتمل الرؤية. وهو ما سيكون موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد رضا العمراني
كاتب متخصص في الفلسفة
كاتب ومدوّن حاصل على بكالوريوس في الآداب والعلوم الإنسانية واللغة العربية وأخرى في الفلسفة والتاريخ والحضارة
تحميل المزيد