قرأت منُذ أيام منشوراً يقول: الكُتّاب مجرمون، يدخلون إلى عقلكِ من خلال قلبكِ، يزلزلون كل قناعتكِ، ويضعونكِ في منتصف الصراع النفسي، يجيدون الهجوم والهروب، إذا أردتِ تجربة الدموع الساخنة، أحبّي كاتباً، كاتباً رومانسياً.. الكُتّاب الرومانسيون، في النفاق أنبياء!
ورأيت كاتباً يقول على لسان زوجته بين صفحات مذاكرته: "لماذا لا يجب أن تتزوجي كاتباً؟! والقمر جميل طالما هو بعيد، وإلا فالحياة فوقه مستحيلة، والحركة عليه صعبة، والسكون في كنفه ليس سهلاً! من بعيد نرى انعكاس الضوء عليه فنظن داخله مضيئاً، ونجلس نحسب الليالي، نراه بدراً فنأنس، يكتمل قرصه فنرتاح، نمتن إذ يطالعنا هلاله فنبدأ ترتيب الأيام. والكاتب كذلك يبيعنا الكلام منمقاً فنظن أنه قد غاص فينا وعرف ما خفي عن باقي البشر، يسهب في الشرح فتتأكد ظنوننا.. فنحب قربه، ونشتاق لحديثه وكلامه، ونمني النفس ببهجة تنالنا حينما نرتمى بين يديه.. فيحدث ما لم نظنه، فتقلبات مزاجه كثيرة، وشروده طويل، وتجاربه تمضي على شريان أعصابه. يشبه "السلك العاري" فكل شيء يمر حوله له فيه نظر، وكل حادثة يجب أن يكون خلفها تجربة، ينتفض كالممسوس، ويقلب الدنيا ولا يقعدها في اليوم ألف مرة. وأنتِ، ترين نظرات الإعجاب تناله فتبتسمين في هدوء، كل الأشياء من بعيد تبدو مختلفة، كلها جميلة حتى تُختبر..".
وقفت طويلاً أمام تلك الكلمات ورحت أسأل ذاتي: لماذا يتم دائماً الترويج أن الكاتب هو الشخص السيئ في الرواية؟ وكأنما كلّما زاد قبح شخصية الكاتب زادت معه الكلمات التي ينتجها ويصدقها الآخرون، وتذكرت حديث صديقي ذات مرة حين قال ليّ: عليك أن تتوقف عن الكتابة لأنها ترهق الآخرين وتخلق لهم عالماً ليس بحقيقي، تقبلت كلام صديقي وقتها بامتنان، لكني رحت ألعن نفسي بعدها مرات عديدة على كلّ ما فعلته الكتابة، حتى هاجمت رأسي الأفكار والتهمتني، سائلاً نفسي: كيف لظنونهم أن يفعلوا ذلك بي؟
قد يكون كل ما أكتبه هنا غير الحق، وقد يكون كله الحق، قد يكون نصفه الحق والنصف الآخر هو الباطل، وقد لا يكون شيئاً.
أنا لا أستطيع التوقف عن الكتابة كما أخبرت صديقي، إنها تجعلني أحيا، تجعلني أستيقظ من النوم وأنا أعلم أن يومي سيكون به شيء عليّ فعله، لكنني أحياناً أخاف على كلّ من يقرأ كلماتي. أحبهم، نعم.. أحبهم، لطالما أردت أن تصبح كلماتي دليلاً في حياة الآخرين وليس وجعاً.
تذكرت سؤال إحداهن: لماذا تكتب؟ قلت لها لأني أريد أن ألهم الناس، أريد أن ينظر لي أحدهم ويقول لي: بسببك أنت، لم أستسلم.. "الأمر يبدو لك وكأنني أريد أن أكتب. لكن لا، الكلمات تريدني أن أكتبها، لم تختبر أن تعيش مثلي في جحيم مطاردة الكلمات لك، أن تطاردك في أحلامك وتوقظك منها لتفكر فيها، أن تخرب عليك لحظاتك السعيدة وتؤنبك لأنك لم تضعها بعد على الورق.. إنه جنون".
لكن يبقى السؤال عالقاً لم أجد له رداً: لماذا يجب ألّا تُحبّي كاتباً؟
الكُتّاب تتعدد علاقتهم ولا يذوقون العشق عشقاً.. فكلّ جميلة يعشقون فيها شيئاً، يستطيعون أنّ يحبوا كثيراً بنفس الشغف.. فكلّما زادت عتمة أرواحهم أضاءوا الكون بالكلمات.
لم يكن الكُتّاب دائماً كما يتم الترويج عنهم، إننا بشر عاديون طبيعيون، ربما فقط أكثر صدقاً أو ربما أكثر كذباً، لكن الأكيد أننا الأكثر حقيقةً.
نحن أقوياء بحجم هشاشتنا، كل ما نفعله هو أننا نحاول أن نعيد ترتيب المشهد من جديد، ربما هذا الذي يجعلنا نتخبط كثيراً في الظلمات.. إننا نكتب عن الحب لأننا نريده، نتعثر كثيراً داخل أنفسنا لأننا نريد أن نصلح ما أفسده الآخرون، ننعزل وتأكلنا الوحدة لأننا نخشى أن نعجز عن ترميم الواقع.
إننا نخاف الوحدة، وتأكلنا الكلمات التي لا تقال ولا نستطيع التعبير عنها بالكلمات، إننا نعاني لأننا نرتعب من الهجر، فإن لم تستطيعي أن تُحبّي كاتباً فلا تقتربي منه، لا تجعلي كلماته تجذبك، وإن لم تستطيعي تقبل تقلباته وسقطاته، فإنك ستكونين تثقلين عليه هموماً أكثر، لأنه في الأصل غارق يبحث عن مرسى كي يستريح.
من السذاجة أن يضع الآخرون الكاتب في قالب الواعظ أو العربيد، أن يتم الخلط بين ما يكتب وشخصيتهُ الإنسانية، ودمج كلماته وما يعبر عنه بأفعاله القابلة للوقوع في الخطأ، ووضع هذا وفقاً للقياس على شخصيته.. ففي نهاية الأمر، لا يكتبُ الكتُّاب ليصبحوا أبطالاً خارقين في ثقافة مضادّة، بل لينقذوا أنفسهم، لكي ينجوا كأفراد، نكتب لنتحدث إلى أنفسنا، لا لنصلح أيّ معنى خارجي، لكن كي نرمم داخلنا المهجور.. ربما نحاول أن نتعرف على أخطائنا الماضية ونخفيها عن نظاراتكم الفاضحة، نكتب عن الأحداث كما كان يجب عليها أن تقع، وتلك المشاعر التي لم يتسنَّ لنا الاحتفاظ بها لوقت طويل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.