لطالما تندّرنا على رواية الأعرابي الذي صنع ربه (الإله الصنم) من تمر، ثم خرَّ له ساجداً متضرعاً يبوح له بآلامه وآماله، راجياً ثوابه وخاشياً حرمانه، يقف عنده حامياً له منافحاً عنه مُجملاً عنقه بالقلائد ومتقرباً إليه بنحر الجزور، ثم إذا جاع تبهَّل إليه أن يرزقه، حتى إذا بلغ منه اليأس مبلغه، وتضوَّرت بطنه، وتلوّى من شدة الجوع، فإذ به تستثيره غريزة البقاء "فيأكل ربه"، وقد ورد عن أبو رجاء العطاردي، رضي الله عنه: "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً (كومة) مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ".
يتناقل اللسان العربي تلك النوادر في معرض حديثه عن جَهْل، حَماقَة، رُعُونَة، وهيافة العقل العربي ما قبل الإسلام، وهي الفترة التي اصطُلح عليها بـ"الجاهلية"، لنفرض جدلاً أن الجاهلية من الجهل المنافي للعلم والتنوير –وهي ليست كذلك- ولكن لا بأس بالقليل من تبسيط المفاهيم، هذا المستوى من السخافة والتيه في أن يصنع المرء ربه (الإله)، ثم يُضفي عليه الهالة والقُدسية، بل يصل به الأمر أن يحلف به أو يحلف عليه، يدافع عنه ويحميه، ويُصبَّئ ناقديه، إلى هنا أجزم أننا نتفق على جهالة، جاهلية، ظلامية، تخلف، سفاهة، طيش، غباء، وضحالة تفكير ذلك الأعرابي.
هنا أدعو القارئ الكريم لجولةٍ فيما يدور في عقلي منذ عدة أيام، وتحديداً بعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد دعوته التوانسة للتصويت على مشروع الدستور الجديد، الدستور وهو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة، الدستور التونسي كما الدساتير العربية لا يمكن وصفها بغير الزئبقية (تلازمية التغير المستمر)، تتبدل مع كل حاكم يتغلب على سلفه ويطغى على أقرانه، تضيق تلك الدساتير بالحريات وتتسع لصلاحيات تؤَله الحاكم، فكيف به -أي الحاكم- لا يُقدس الدستور ويفرض على رعيته بسطوة القانون احترام ذلك النص المسمى دستوراً والذي أملاه على جوقةٍ من "مُطبليه" ليكتبوا له نصاً يرقى لطموحاته اللامتناهية؟!
عودةً على البدء، يسحب قيس سعيد مسودة الدستور بعد تسرب بعض الأخطاء إلى مشروع الدستور الذي تم نشره، والتي وجب إصلاحها وتصويبها، حقاً، "لسا مبارح أعلنوا عن دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، "طول عمرنا متعودين كل رئيس إما يعطل الدستور ويحكم بأهوائه، أو بعمل دستور جديد"، "أما أن ينسحب الدستور قبل إقراره لتعديله وإعادة صياغته فهذه ثالثة الأثافي".
لهذا لم أحترم الدستور التونسي الذي كتبه سعيد
ثم أتساءل في قرارة نفسي: كيف لي أن أحترم نصاً كتبه غيري إرضاءً لهوى سيِّده، كيف لي أن أقسم بـ"كُليمات" صاغها "الآباء المؤسسون" ممن عاشوا زمانهم ووثقوا عهودهم وجدالاتهم الفكرية لتناسب تلك المرحلة من حياة دولتهم الوليدة، كيف لي أن ألتزم بقانونٍ اشتق من نصٍ مقتبسٍ من دستور المستعمر، وهل تستورد الدساتير التي نضجت في سياق فكري ومكاني وفُصِّلت لتناسب أمةً دون غيرها من الأمم، ثم تُصيَر تلك الدساتير لتخضع لها أمتنا؟!
كيف لي أن ألتزم بقانون مردّه إملاءات المانحين أو اتفاقياتٍ مع كيان لا أعترف بوجوده؟! كيف لي أن أقدس دستوراً خطَّه بشر مثلي قد أفوقهم علماً يوماً ما؟!
كما بدأت مقالي بجهالة وجاهلية ذاك الأعرابي الذي صنع إلهه ثم أكله أو طاف حوله، ها هم يصنعون لنا آلهةً تُعبد وتُقدس، ها هم ينازعون الخالق حكمه وفطرته، يكتب أحدهم بضع كلمات تُسمى دستوراً على هوى سيده المنقلب، وقد يُصوَّت عليه شكلياً وقد تُقِرها "الشرعية الثورية"، ثم يطلب مني أن أحترمه.
وأذكر هنا مما قرأت للكاتب السوري أحمد عمر: "لا بد من إنصاف آلهة العرب القدماء مقارنة بالوثن الجديد، فأوثان القدماء مسكينة تستحق الشفقة والصدقة، ولا تقدر على الحركة لأنها كانت أسيرة البيت العتيق أو المعبد، أو لأن بها إعاقة دائمة. ومن حسناتها أنها لم تكن تأكل الحرام ولا الحلال، ولا تمشي في الأسواق، ولا ترعب الناس، ولا تشنُّ الحروب، وكانت تلك الأوثان القديمة صامتة خرساء، لا ترفع المفعول به ولا تنصب الفاعل، لا تجرُّ الحرائر إلى السجون، ولا تحارب دين الشعب ولا تسرق لقمة عيشه، هناك شبه وحيد بينهما وهو السفاهة: الأوثان القديمة والوثن المعاصر تتوصل إلى الناس باستخفاف عقولهم".
أختم مقالي بمقدمة الدستور المقدس الوحيد الذي أعرفه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، وهو نص إلهي لا شك بألوهيته ولا ريب في صحته، إذاً فهو دستور فوق بشري فلا يدعي أحد علماً يفوق خالقه، ولا يستأثر به حزب دون غيره، والأهم من ذلك أنه نصٌّ عابر للزمكان.
وفي الختام يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو هل القرآن دستور بالمعنى القانوني المتعارف عليه؟ أقول إن القرآن ليس كذلك لأنه أعمَّ وأشمل، فهو شريعة ومنهج حياة، إلا أن على المسلمين اشتقاق دساتيرهم من روح القران الكريم وبما لا يُعارضه، على أن يسبق تلك المهمة -حسب المفكر الجزائري بوقرة سلطاني- "ظهور تفسير جديد للقرآن، تفسير يستفيد صاحبه مما وصل إليه العقل البشري من اختراع يعمل على تحريكه في واقع الناس باستدعاء حي للقرآن المجيد يقنع العقل أن كلام الله هو الحياة وهو الحركة وهو الميزان. وأنه مطالب بالتفكّر فيه كتفكّره في الكون من حوله. فجل المفسرين المحدثين عالة على السابقين من السلف، وأغلب التفاسير استنساخ ممن سبق بذريعة الاتكاء على المأثور أو خشية إعْمال الرأي في كلام الله، أو الخروج عن منهاج الذين عبّوا من المنهل الصافي قبل أن تكدره دلاء الخائضين".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.