هُجّر من وطنه وطُرد من غربته وأُبعد عن زوجته وولده.. مريد البرغوثي الذي أكلته الغربة

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/07 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/07 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش

"لكني أعرف أن الغريب لا يعود أبداً إلى حالاته الأولى، حتى لو عاد خَلَصْ، يُصاب المرء بالغربة كما يُصاب بالربو، ولا علاج للاثنين. والشاعر أسوأ حالاً لأن الشعر بحد ذاته غربة". مريد البرغوثي.

أُحب مشاهدة صور مصر قديماً في فترات مختلفة، أحب التاريخ رغم أني اخترت القسم العلمي في ثانويتي، ورغم أني أدرس علماً جافاً كعلم الهندسة، ربما كان من الخطأ أن أدرس هذا المجال، ربما يكون من الخطأ أصلاً أن يتحتم علينا اختيار مجال دراستنا، ونحن في الثامنة عشر من أعمارنا. لكنه على كل حال خطأ لم ولن أندم عليه، لا أعرف إن كان يشاركني مُريد الرأي في السن المناسبة لاختيار مجال الدراسة الجامعية، لكني أوقن أنه لم يكن ليندم أبداً على جلوسه لإلقاء الشعر على سلالم مبنى كلية الآداب حيث التقى برضوى. حتى لو قرر مثلاً في لحظة ما من عمره أنه لم يكن ليفضل أن يدرس الأدب، أي شخص قد يرغب في إصلاح خطأ يقوده للقاء حب حياته؟

وحين أقرأ في التاريخ أشعر بالمرارة عند القراءة عن عصور الاحتلال، وربما أشدها طرحاً على ذاكرتي دوماً، هو زمن الاحتلال البريطاني لمصر، الذي دام نحو ثمانين عاماً، وحين أفكر في احتلال فلسطين حتى هذه اللحظة دام لأكثر من سبعين عاماً، أفكر في أنه كان يمكن بتغيير طفيف في الأقدار أن أكون مكانه… مكان مُريد… أنظر إلى وطني من خلف جسر كالجسر الفاصل بين الحدود الأردنية وفلسطين، وأحاول أن أتخيل كيف هو العالم الذي تركته قبل عقود؟ هل لا يزال شاباً، أم أن الأماكن تشيب مثلنا؟

مُريد الذي صار غريباً

"في ظهيرة ذلك الإثنين، الخامس من يونيو/حزيران 1967.. أصابتني الغربة".

من الغريب أنه رغم السنوات الأربع التي قضاها مريد في مصر لدراسة الآداب في جامعة القاهرة، ورغم أنه كان مغترباً عن فلسطين، أنه يحدد تاريخ إصابته بداء الغُربة بيوم النكسة، اليوم الذي احتلت فيه القوات الإسرائيلية الضفة الغربية من البلاد، حيث تقع رام الله. إذاً ألا يجدر بنا التوقف عن استعمال لفظة مغترب مع هؤلاء الذين أتوا لزيارات أو أشغال، ما دام أننا وهم نعرف أن لديهم أوطاناً ليعودوا إليها؟ أو على الأقل علينا أن نجد وصفاً آخر.. يليق بحجم الألم الذي يصيب هؤلاء الذين يعلمون علم اليقين أنه لا أمل في عودة.

على هؤلاء أمثال الخال عطا مثلاً، خال مُريد، الذي سار في الصحراء لأربعة عشر يوماً قبل أن يصل إلى بيت مُريد، قبل أن يخلع عنه كل رداء للقسوة التي عرفت عنه في إدارته لشؤون حياته وهيبته التي كان يخشاها أهل بيته، ويقف على باب مُريد بعد النكسة هشاً كطفل، ماذا يمكن أن نطلق على الخال عطا؟ لطيم؟ أليس الوطن كالأم من المفترض أنه يحتضن أبناءه؟

ماذا يمكن أن نطلق على منيف، منيف عبد الرازق البرغوثي، أخو مريد الذي أودعه بيديه الظلام الذي لا عودة منه، ووقف على شاهد قبره في أطراف عمان يأسى على مقدار القرب الذي كان منه أخوه برام الله، ثم أرجعوه ومنعوه من دخولها مرتين. إذا كنا نُعزي أهل الفقيد في موته ألا يجب أن نعزي من ذهبوا إلى غربة لا عودة منها أيضاً؟ ماذا نسمي من أودعه الاحتلال غربة لا عودة منها، فقيد؟ نحتاج أن تتسع اللغة قليلاً لتشتمل على مفردة جديدة يمكنها أن تعبر عن كل هذا الألم.

رثاء مريد البرغوثي لرضوى عاشور
مريد البرغوثي وزوجته رضوى عاشور وابنهما تميم البرغوثي – الشبكات الاجتماعية

مُريد الذي عاش غريباً

لم يحب مريد البرغوثي لفظة "أخ" أبداً، كان يقول إنها هي التي تبطل رباط الأخوة، وتفضح الاغتراب بين الأشخاص، لأن الإخوة لا يستخدمون الألقاب فيما بينهم.. الإخوة يعرفون أسماء بعضهم بعضاً، حين التقى مريد بإخوته ووالديه في فندق بعمان لأول مرة منذ الحرب كانوا ينادون بعضهم بالإخوة أم بالأسماء؟ لربما كانوا يشددون على مناداة بعضهم بالأسماء أصلاً كي تمحو قليلاً من المرارة التي عششت في حلوقهم بعد أن فرقتهم الحرب. وما كثرة الأماكن التي لم يحفظ قاطنوها اسم مُريد فاضطروا إلى أن يطلقوا عليه لقباً آخر، لقد كان غريباً في كل مكان زاره، بداية من الحدود الأردنية مروراً بعمّان ومصر، انتهاءً بالمجر وبودابست والمغرب وغيرها.

كان غريباً حين دخل إلى مصر، وحين عاش فيها طالباً وعاشقاً، غريباً حين تقدم لخطبة رضوى ورفض أهلها أن يسلموها للشاعر الشريد، الذي لا مستقبل له، ولا تلوح في وجهه أي علامات للاستقرار، غريباً حين كتب الشعر في مجلة المسرح الجامعية، وحين جلس في غرفته يكتب مسودات ناقصة، ويخيط الجملة بالجملة، ليحكي عذابات البعد عن الوطن، ويحاول أن يفهم كيف يكون إنساناً من يرضى بطرد مالك من بيته، وغريباً حتى وهو يجلس في صالة بيته، ويتحلق حوله الأصدقاء في أوائل السبعينيات لمناقشة ديوانه الأول.

صار غريباً حين احتُلت الضفة الغربية، وعاش غريباً حين دخل إلى مصر، وازدادت غربته حين خرج منها مطروداً بعد اعتراضه على زيارة السادات إلى الأراضي المحتلة "إسرائيل" وتوقيع معاهدة السلام، ومنع من دخول مصر طيلة سبع سنوات أُتبعت بعشرٍ لم يُسمح له فيها بالدخول إلى مصر سوى أسبوعين في كل عام.

كان مريد البرغوثي غريباً عن طفله، الذي لم يسعه الحصول على غيره بسبب غربته وطرده من مصر، تخيل أن تتغرب مرتين؟ أن تتغرب عن وطنك فتحاول اتخاذ وطن بديل تزرع فيه زوجة وابناً وعدة أصدقاء وبعض الخصوم، ثم يطردونك منها مجدداً؟

مريد البرغوثي الذي تعلم ألا يتعلق بالأشياء، وألا يأخذ في حقيبة ظهره إلا أكثر الأشياء أهمية، وربما لم يضطر أصلاً لحمل أكثر منها، لأنه كان دائم الزيارات كطير يحط على كل جزيرة قليلاً، لكن لا يستقر أبداً. حتى وهو يعبر الجسر بعد ثلاثين عاماً من المرور عبَره خارجاً من الوطن، وعائداً إلى مصر ليدرس سنته الأخيرة.

كان عابراً بالمعنيين، كان عابراً حقيقياً، لعبوره الجسر، وعابراً معنوياً لأنه كان يعرف أن مكوثه لن يطول. مُريد الذي تعوّد الخفة والترحال لدرجة أنه فوجئ حين حمل الحقائب الثقيلة لأول مرة مغادراً إلى الدار البيضاء ليلتقي برضوى، وتمسكه بيده لتعود به إلى مصر أخيراً، بعد أعوام من الترحال والشتات. مريد البرغوثي الذي تعود أن يحمل قبضة ما في قلبه من خوف وأسى ورهبة من الوصول، لأنه يعرف ما الذي يليه من رحيل جديد، لدرجة أنه لم يصدق حين جلس في صالة بيته عارفاً عن يقين أنه ليس عليه أن يغادر في صباح يوم ما بعد نحو أسبوع أو أسبوعين.

لو أني التقيت بمُريد

لو أني التقيت بمريد البرغوثي فإنني أحب أن ألقاه وهو يزور رام الله بعد ثلاثين عاماً من الخروج، أحب أن أذهب معه في رحلة لدار رعد، في دير غسانة، وأن التقي الخالة أم طلال، أحب أن أرى الزيتون وأن أجلس معه على قهوة "ركَب" ونصطحب معنا الجميع، أنا ومريد ومجيد ومنيف وعلاء والأم والأب، نبتاع جريدة من أبو الحبايب، ونتناول الشوكالامو وأناقشه في أفكاره. أسأله عن جملته: "معيار السلوك عندي ليس الصحيح والخطأ، وليس الحلال والحرام، بل الجمال والقبح".

وعن رأيه في هؤلاء الذين يعرفون عن الأمور الخاطئة والحرام والقبيحة، ومع ذلك يفعلونها في وضح النهار؟ أخبره بأنني مثله. أشعر بالخوف الشديد متى ما انتهيت من كتابة مقال، وكل مرة أنشر فيها مقالاً أخشى قراءته لأني أشعر كأنه خرقة بالية، لا تستحق أي نشر أو قراءة، لكني أنشرها على كل حال، فقط كي أنشغل بغيرها أخيراً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مي قاسم
كاتبة مصرية
وُلدت عام 2000 في مدينة طنطا، أدرس بكلية الهندسة-قسم الاتصالات، صدرت لي رواية «لبلأ.. حكاية لا يبليها التكرار»، وأكتب في مجالات السينما والأدب والتراث الفني.
تحميل المزيد