كيف رأى المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون تعدُّد الزوجات في الإسلام؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/07 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/07 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
غوستاف لوبون وتعدد الزوجات في الإسلام

"إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصّاً بالإسلام، فقد عرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمـد (صلى الله عليه وسلم)، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنماً جديداً إذن". غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب".

ما طفق القرن التاسع عشر في البزوغ والولوج إلا وكانت الحركة الاستشراقية الأوروبية على درجة كبيرة من النشاط والذروة آنذاك؛ فقد كان المستشرقون الذراع اليمنى للغرب لمعرفة عالم الشرق والإسلام والوقوف على حقائقه وتصوراته وعاداته وإعادة تمثيلها بلغاتهم وأفكارهم.

بيد أن كثيراً من هذه التصورات كانت شائهة لأسباب كثيرة؛ منها ضعف إلمام الأوروبيين باللغة والثقافة العربية والإسلامية المنبثقة من الوحي قرآناً وسنَّة، ومنها روح من بقايا صليبية قديمة كانت تنظر شزراً لكل ما هو إسلامي، ومنها سوء في الفهم والتقدير، وكانت مسألة "المرأة في الشرق" من المسائل التي أخذت مساحة في هذه الدراسات التاريخية والقانونية "الفقهية" لديهم، كثير منهم رسم لوحة بائسة للمرأة المشرقية طوال عصورها الوسيطة والعثمانية والحديثة منها، وقليل، بل أقل القليل منهم، من وقف على فهم دقيق للحضارة الإسلامية ودور المرأة فيها.

وكان من جملة هؤلاء المنصفين المستشرق والمؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي المعروف غوستاف لوبون (1841- 1931م) الذي له عشرات المؤلفات في الآثار والتاريخ وعلم النفس الاجتماعي، وحرص على إبراز الصورة الحقيقية لـ"حضارة العرب" بصورة أقرب للصحة، فكان تناوله لمسألة "المرأة في الشرق" و"تعدد الزوجات"، وما أثير حوله بأنه سبب في تعاسة المرأة وشقائها موضوعياً هادئاً لحد كبير.

فكيف نظرت الحضارات الأخرى لهذه المسألة الحسّاسة؟ وكيف تناول حقيقتها المؤرخون الأوروبيون لا سيما المنصفين منهم؟ وكيف أفاض غوستاف لوبون وبيّن وجهة نظره بشمول وصحة تصور؟! ذلك ما سنراه بعد قليل..

التعدد مبدأ حضاري!

لم يكن الإسلام أول من شرع نظام تعدد الزوجات، بل كان موجوداً في الأُمم القديمة كلها تقريباً، عند اليونان والصينيين والهنود والبابليين والآشوريين والمصريين الفراعنة، ولم يكن له عند أكثر الأمم عدد محدد، إذ سمحت شريعة "ليكي" في الصين بتعدد الزوجات إلى مئة وثلاثين امرأة، والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد دون حد، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهم زوجات كثيرات، حتى إن الأديب الكبير عبّاس العقّاد (ت 1964م) في كتابه "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" يقول: "ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراة أو في الإنجيل، بل هو مباح مأثور عن الأنبياء أنفسهم من عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام) إلى عهد الميلاد…"[1].

ويؤكد مؤرخ الحضارة ول ديورانت (ت 1975م) هذه الحقيقة في تضاعيف موسوعته "قصة الحضارة" قائلاً: "لقد ظَنَّ رجال الدين في العصور الوسطى أن تعدّد الزوجات للزوج الواحد نظام ابتكره محمد ابتكاراً لم يُسبق إليه، لكنه في الواقع نظام سابق للإسلام بأعوام طوال"[2]. وفي الحضارة الفارسية الساسانية قبل الإسلام "لم يكن القانون يشجع البنات على أن يظللن عذارى، ولا العُزاب على أن يبقوا بلا زواج، ولكنه كان يبيح التَّسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء"[3]، وفي الهند القديمة: "كان تعدد الزوجات جائزاً، ويشجعون عليه بين العلية، لأنه مما يسجَّل للرجل بالفخر أن يعول زوجات كثيرات، وأن ينقل إلى الخلف قوته"[4].

وفي الإمبراطورية الصينية التي امتدت لآلاف السنوات، وُجد "تعدد الزوجات فكان في نظرهم وسيلة لتحسين النسل؛ وحجتهم في هذا أن من يستطيعون القيام بنفقاته منهم، هم في العادة أكثر أهل العشيرة قدرة على إنجاب الأبناء"[5]، بل لا يوجد في الإنجيل نص يحرم بوضوح تعدد الأزواج، و"كانت فرنسا [في القرن التاسع الميلادي] وقتئذ أغنى البلاد التابعة للكنيسة اللاتينية. ذلك أن ملوك الأسرة المروفنجية لم يكونوا يرتابون في قدرتهم على ابتياع ملكوت السماوات بعد أن يستمتعوا بتعدد الزوجات وتقتيل الخصوم فأخذوا يهبون الأسقفيات الكثير من الأراضي والأموال" كما يصف ديورانت.

ولما خرج الراهب وأستاذ اللاهوت الألماني مارتن لوثر (ت 1546م) يدعو لإصلاح جذري للكنيسة الكاثوليكية ونظامها الاستبدادي على الرعية والملوك، كان من جملة إصداراته الإصلاحية الدعوة إلى فتح باب الطلاق لمن يستحيل بينهم العشرة من الأزواج والزوجات، بل طالب بتعدد الزوجات، قائلاً: "فإنها تستطيع بحق أن تطلق منه. ومع ذلك فإن الطلاق مأساة لا نهاية لها، ولعل تعدد الزوجات خير منه"[6].

ويعترف المؤرخ والمستشرق الفرنسي غوستاف لوبون (1841- 1931م) بأسبقية مبدأ تعدد الزوجات قبل الإسلام بقرون متطاولة، وأن هذا المبدأ لم يكن السبب الذي دفعهم إلى الدخول إلى الإسلام اغتناماً من ورائه؛ إذ يقول في كتابه المهم "حضارة العرب": "إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصّاً بالإسلام، فقد عرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمـد (صلى الله عليه وسلم)، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنماً جديداً إذن، ولا نعتقدُ مع ذلك وجودَ ديانة قوية تستطيع أن تُحوّل الطبائع فتبتدعَ أو تمنعَ مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جوِّ الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم"[7].

ورغم هذا التاريخ الطويل من الحقائق الثابتة عن الحضارات الإنسانية من الشرق والغرب التي دعت وطبقت مبدأ تعدد الزوجات، فقد ظلت صورة المرأة المشرقية المسلمة مشوّهة في العقل الغربي، حتى وُسمت بمبدأ المقهورة الذليلة، التي لا تستطيع العيش كما يعيش الرجل في تلك المجتمعات القديمة.

لوبون وتصحيح الأخطاء

ولأن المستشرق والمؤرخ وعالم النفس الفرنسي الشهير غوستاف لوبون كان رجلاً عالماً، عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، فقد وقف بعين فاحصة على هذه الشائعات والمفتريات والجهالات الغربية –التي للغرابة لا تزال تنتشر بين الحين والآخر– ونقدها بعين البصير، فبدّدها بأناة وفهم ثاقب، يقول: "إن أكثر مؤرخي أوروبا اتّزاناً يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علّة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغربية على العموم أصواتُ سُخْطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يرقُبُهن خصيان غلاظ، ويُقتلْنَ حينما يكْرهُهنّ سادتهن"[8].

وينفي لوبون هذه الأوهام جملة وتفصيلاً في فصله الماتع "المرأة في الشرق"، حين يقارن وضعها قبل الإسلام وبعده، ويفصّل بهدوء وثقة تامة مميزات هذا النظام، فحين ينفي هذه الصورة المبتسرة والمتوهّمة عن المرأة المسلمة في الغرب يقول: "ذلك الوصف مخالف للحقّ، وأرجو أن يثبُت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقيّ نظامٌ طيّب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوروبا"[9].

وإن أول ما يتكئ عليه لوبون في ترجيح كفة مبدأ تعدد الزوجات في الإسلام عن الأنظمة السارية في أوروبا باتخاذ الخليلات والخيانات الزوجية، هو مبدأ العلانية والشرعية في هذه العلاقة؛ إذ يقول: "ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السِّرّي (الخيانات الزوجية) عند الأوروبيين، وأُبصرُ العكس، فأرى ما يجعله أسمى منه، وبهذا نُدرك مغزى تعجُّب الشرقيين الذين يزورون مُدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزراً"[10].

بل لم يخفَ عليه أهمية تعدد الزوجات وكثرة التعداد السكاني الناشئ عنه في النهضة الاقتصادية للأمم، وعلى رأسهم المسلمون في العصور الوسيطة والعثمانية، وقد تنبه لهذا المغزى عدد من المؤرخين الأوروبيين الذين سبقوا لوبون، مثل مسيو لوبله في كتابه "عُمّال الشرق"، الذي يقول: "وقد يعجب المرء أول وهلة من حمل امرأة زوجها على الزواج بامرأة أخرى، ولكن العجب يزول حينما نعلم أن النساء في الأسر الإسلامية (الزراعية) هُنّ اللائي يقُمن بشئون المنزل مهما كانت شاقة، وذلك أن الفلاحين كانوا يجهلون أمر اتخاذ الخوادم فلم يبق للنساء غير الاستعانة بالإماء والقريبات.. وقد لا يكون هنالك قريبات، وقد لا تسمح الأحوال… ومن ثم ترى أن الزوجة تُشير في تلك الأحوال على زوجها بأن يتزوج بزوجة أخرى"[11].

لوبون ينصف المرأة في ظل الإسلام

ولقد راح لوبون إلى أبعد من ذلك حين أجلى موقف الإسلام من المرأة وأنه "كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضهما خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثية أحسنُ مما في أكثر قوانيننا الأوروبية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في حقوق الإرث عند العرب، أجل، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوروبا التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون (لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)"[12].

كما تناول أوضاعهن المزرية في عصور ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية وغيرها، إذ كانت في مقام أشبه ما يكون بالأنعام، وأن وأدهن وقتلهن كان شائعاً؛ لأنهم اعتقدوا أن إنجاب البنات جالباً للعار والمصيبة والمنقصة بين أبناء القبائل، بل إن لوبون يصف هذه العادات الجاهلية بأوروبا العصور الوسطى التي كان "رجال عصر الإقطاع غلاظاً نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب (المسلمين) أمرَ معاملتهن بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غازان.. عن معاملة النساء في عصر شارلمان (إمبراطور الفرنجة) وعن معاملة شارلمان نفسه لهنّ كما يأتي: انقضّ القيصر شارلمان على أخته أثناء جدال وأخذ بشعرها وضربها ضرباً مبرحاً وكسر بقُفّازه الحديدي ثلاثاً من أسنانها". ويُعلق لوبون على هذه الغلظة قائلاً: "فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربة في الوقت الحاضر؛ لبدا هذا السائق أرقّ منه لا ريب"[13]!

وقد عدّد لوبون أمثلة على دور المرأة الحضاري في التاريخ الإسلامي، لا سيما عصور الأمويين والعباسيين وفي الأندلس، منهن من عملت ناسخة ومنهن من برعت في الأدب والشعر، ومنهن من علّمت بنات الأسر الراقية في إشبيلية، ومن خلال هذه الأمثلة التاريخية يعود فيؤكد: "وهنا نستطيع أن نكرر إذن قولنا إن الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيدٌ عن خفضها، ولم نكن أول من دافع عن هذا الرأي، فقد سبَقَنا إلى مثله كوسان دوبرسفال ثم مسيو بارتلمي … ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نُضيف إلى هذا أنه أولُ دين فعل ذلك، ويسهُلُ إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة".

 ثم لا ينفك لوبون في ضرب الأمثلة الدّالة على ذلك، يقول: "كان الأغارقة –على العموم– يعدُّون النساء من المخلوقات المنحطّة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وضَعَت المرأة ولداً دميماً قضوا عليها… وكان جميع قدماء المشترعين يُبدون مثل تلك القسوة على المرأة، ومن ذلك قول شرائع الهندوس: ليس المصير المقدَّر والريح والموت والجحيم والسمُّ والأفاعي والنار أسوأُ من المرأة"[14]

تلك أهم آراء المستشرق والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون عن المرأة في الإسلام، ومبدأ تعدد الزوجات في كتابه المنصف "حضارة العرب"، وهو واحد من أهم المراجع التي كُتبت في بدايات القرن العشرين لسبر أغوار هذه الحضارة والثقافة، في وقت كانت تعجّ فيه آراء المؤرخين والمستشرقين الأوروبيين بكثير من الأغاليط والكذب، لا سيما المندوب السامي البريطاني في مصر اللورد كرومر الذي اتهم الإسلام والمرأة في ظله بكل نقيصة، فجاء كتاب لوبون كاشفاً عن الحقيقة، ورافعاً لكل حُجب الكذب والتضليل.

ـــــــــــــــــــــــ

المصادر

  • 1- عباس العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
  • 2- ديورانت: قصة الحضارة 1/70.
  • 3- ديورانت: السابق 2/440.
  • 4-   ديورانت: السابق 3/28.
  • 5-   ديورانت: السابق 4/270.
  • 6-   ديورانت: السابق 24/31.
  • 7-   غوستاف لوبون: حضارة العرب ص397.
  • 8-   غوستاف لوبون: السابق ص397.
  • 9-   لوبون: السابق.
  • 10-   لوبون: السابق ص398.
  • 11-   لوبون: السابق نفسه.
  • 12-   لوبون: السابق ص401.
  • 13-   لوبون: السابق ص403.
  • 14-   لوبون: السابق ص405، 406.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد شعبان أيوب
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط، له خمسة مؤلفات في التاريخ العباسي والعثماني والمملوكي وعشرات المقالات والأوراق البحثية، ويكتب في العديد من المواقع والدوريات
تحميل المزيد