أشياء خارقة لا تفعلها إلا الأمهات!

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/07 الساعة 13:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/07 الساعة 13:36 بتوقيت غرينتش
أشياء خارقة لا تفعلها إلا الأمهات فقط/ shutterstock

ليس غريباً أن ترى سيدة قروية تحمل فوق رأسها خبزاً وعسلاً وجبناً في طستٍ معدني ضخم، هو من الكِبَر بحيث لا يمكنك ملاحظة رأسها المختفي وسط هذه الكومة العملاقة الحاجبة للرؤية، أو تراها تحمل الطّست نفسَه وقد مُلئ دجاجاً وبطّاً وإِوَزّاً تسعى في كسْب رزقها ببيعه، أو تحمل كمية عظيمة من السمن والحليب والفطائر للغرض ذاته، بينما لا تسمح لعنقها القوي أن يدور يَمْنة أو يَسْرة، وإلا لذهبت خطط يومها أدراجَ الرياح.

كل هذا ليس غريباً بقدر غرابة ما رأيتُ أنا في ذلك اليوم الغائم؛ سيدة بسيطة الثياب، نحيفة الجسد، تحمل فوق رأسها باب دولاب متيناً! نعم، مصراع دولاب خشبي ضخم، وقد تمدَّدت فوقه طفلة مكسورة القدم، لا يقلُّ عمرُها عن اثني عشر عاماً بأي حال من الأحوال، تسير بهذا الحمل الفادح في الغيطان والأراضي الطينية الزلقة، التي يشبه السيرُ فيها التزلج على جليد أملس شديد الوعورة، لا تقوى الأقدام على الثبات على سطحه.

استقرَّت سيارة الأجرة التي كنتُ أركبها يومياً من مدينتي إلى قرية قريبة منها؛ لأصل إلى مكان مجاور للمدرسة الإعدادية، مكان عملي، وما إن غاصتْ قدماي في وَحْل أرض القرية حتى وقعتْ عيناي على المرأة وقد علاها ذاك الحِملُ الذي تنوء به العُصبة، لم أستطع منْعَ عينيَّ عن مطالعة هذا المشهد المهيب الذي لم أرَ مثله في حياتي، وفي الغالب لن أرى مثله بعده.

وقفت مدهوشاً أمام الفتاة، التي رأيتُ بياض جبيرتها البادئة من نصف فخذها وحتى أخمص قدميها، ممسكةً بكتاب -يبدو كتاباً مدرسياً- وتقرأ فيه بتمعُّن وتركيز شديدين، والأم تنزل آخر درجات سلم كوبري عبور المشاة، الذي يربط بين ضفتي الترعة الصغيرة، التي تسكن الفتاة وأمها على الضفة المقابلة لتلك التي عليها مدرستي.

تهبط درجات السلم بحذر بالغ، حتى كدتُ أصرخ فيها -من شدة مبالغتها- أسرعي؛ لأرى ما بعد هذا المشهد المثير، فوفقاً لتكهناتي التي لا تخيب تبدو الأحداث القادمة أكثر إثارة مما ترى عيناي الآن، ولكنني انتبهتُ إلى احتمال كونها قد مرتْ بتجربةٍ انزلاق مريرة فوقعتْ، أو كادت، هي والبنت من فوقها، فأحجمتُ، وتمنيتُ لها سلامة الوصول.

وبعد أن أتمَّت السيدة هبوط السلم ظهر أمامها الآن تحدٍّ جديد، وجدتُّ هذه الكتلة البشرية العجيبة تتحرَّك الهوينا لتعبر الطريق السريع، وما أدراك ما هو؟! يتناسب عرض الطريق مع قرية صغيرة من قرى مصر، هذا مفهوم، بَيْدَ أن سائقينا لا يتعاملون معه وفق هذا المنطق، فهم يقودون فيه سياراتهم كأنها مجنزرات آلية يدعسون بها أَسْفلته انتقاماً لجريمة ارتكبها فيما يبدو.

وقفَت المرأة على جانب الطريق تحاول المرور والحيرة تملأ عينيها، ولا أدري حتى هذه اللحظة ما الذي ألجمني عن مساعدتها بأية طريقة طوال هذه الرحلة المريرة حتى نهايتها! ولكن يبدو أن غرابة المشهد أدهشتني فأعجزتني عن مجرد التفكير في أي شيء حولي، حتى أُسدل الستار على الحدث بالكامل فعدت إلى رشدي.

لم تكد تحرِّك قدماً باتجاه الطريق حتى تبادرها سيارةٌ من أحد الجانبين، فتعود أدراجها لتُوَسِّط باب الدولاب على رأسها من جديد بِرَفْعَة رشيقة من جسدها، ليرتفع معها جسدُ ابنتها ذات القدم المكسورة، والتي بدا من عدم اكتراثها بهذه الرفعة أنها اعتادت وقوعها المتكرر، حيث لم ترفع عينيها عن الكتاب الذي تتشبث به. تَكرر المشهد عدة مرات، ومع كل مرة كاد قلبي ينخلع من مكانه خشيةَ أن يقع أمام ناظري حادثٌ بشع تستدعيه ذاكرتي طوال حياتي، لكن الأمر مرَّ بسلام، واستطاعتِ المرأة النحيلة أن تجتاز الطريق وتعبر خط النهاية بشق الأنفس، بعد أن أبطأ سائقٌ شهم سيارتَه، فهرولتْ دون حتى إبداء إشارة شكر أو امتنان.

تنفستُ الصعداء، وتذكرتُ أني تأخرت عن التوقيع في دفتر الحضور بالمدرسة، فأسرعت الخُطى حتى لا أُجازى؛ فنحن في أيام امتحانات، والمدير لا يرحم، لكن يحدوني فضولٌ لا حدَّ له لاستكشاف المصير الأخير لفتاة الدولاب، فلم أكد أعبر الشارع أنا الآخر بخطاي المتسارعة، التي تقدِّم رجلاً وتؤخِّر أخرى لأعيد النظر إلى الفتاة وأمها، حتى وقع ما كنت أخشاه؛ تراكمت الغيوم فوق رؤوسنا وأمطرت السماء، بدأتْ بقطرات وئيدة، وأخذتْ في الازدياد حتى صارت مطراً ثجَّاجاً، وكأن أبواب السماء قد فُتحت بماء منهمر، وبدأتِ الأرض تميد من تحت قدَمي المرأة، حتى لم تجد بدّاً من أن تسير ببطء مبالغ فيه؛ حتى لا تنزلق قدمُها، فتصبح المكسورة اثنتين أو ربما أكثر.

ظلَّتْ تكابد المسير ويكابدها، وأرقبها من خلف حجاب الهيبة والرهبة، رغم تأخري، حتى كادتْ تلحق بي من شدة ترددي، ثم توجهتْ صوب مدرستي نفسها، دلفتُ سريعاً ووقّعتُ في دفتر التأخير بالطبع، ثم عدتُ إليها مسرعاً فلم أجد لها أثراً، بحثت كثيراً ولا فائدة.

ظلَّلتْني سحابةٌ من الكآبة أني لم أعرف كيف انتهى بها الحال، وهل وصلت لوجهتها سالمة أم لا، ولكنني اكتفيتُ بهذا القدر وعُدت مرة أخرى إلى غرفة المدير، فاليوم هو آخر أيام امتحانات العام الدراسي، بحثت عن اللجنة التي أدرجتْني الإدارة لأراقب بها، اللجنة رقم ثلاثة، لجنة خاصة! لم أفهم معنى كونها لجنةً خاصة بادئ الأمر، ولم يستهوني السؤال عن ذلك بقدر ما كان يشغل بالي حال تلك السيدة، انطلقتُ إلى مكان اللجنة، غرفة التربية الرياضية بفناء المدرسة، بهو واسع مُترب في الدور الأرضي، تسللتُ إلى الغرفة فوقعت عيناي على عجب آخر، فتاة الدولاب وأمها أمامي وجهاً لوجه، لا يفصل بيننا سوى ثلاثة أمتار، الفتاة ممدَّدة على باب الدولاب فوق الأرض، وأمها جالسة على كرسي إلى جوارها!

زاد عجبي، لكن لم يمهلني الزمن زيادة تفكير حتى وصل ورق الأسئلة وبدأت اللجنة. وزَّعتُ ورق الامتحان على الطالبات، وطلبت من السيدة أن تجلس خارج اللجنة حتى تنتهي الفتاة من الحل، طمأنتُها وهيّأت لها مقعداً حتى جلست، كلٌّ ينظر في ورقته، ولكن الفضول يقتلني، ينهش دواخلي، أوزّع نظراتي على الطالبات جميعهن، ثم أنظر إلى الفتاة مليّاً، فأنتبه من لُجَّة الغرق في التفكير، فأعاود توزيع النظرات من جديد… وهكذا، حتى تجاسرتُ وجلست إلى جوارها وسألتها عن قصة ساقها، فأخبرتني:

–   سقطتُ عن الدَّرَج قبل بدء الامتحانات بيومين، فأمر الطبيب بتثبيت الرِّجل كلها بجبيرة لا تُنزع إلا بعد ثلاثة أسابيع، ولم يكن بُدٌّ من دخول الامتحان رغماً عني، وبعد تفكير طويل صمَّمَتْ أمي على حملي فوق رأسها طيلة الطريق ذهاباً وإياباً منذ خمسة أيام مذ بدأت الامتحانات، فإمكاناتنا المادية لا تسمح باستئجار سيارة طوال هذه المدة، وها قد أظلَّنا آخر يوم، ولا أدري حقاً كيف أشكر أمّي على صنيعها.

انتابتني قشعريرةٌ سَرَتْ في أنحاء أوصالي، وانتصب شعر جسدي حتى انتفضتُّ واقفاً، فرغم الكمّ الكبير من قصص التضحيات الوالدية التي مرت عليّ فإنني لم أسمع مثل هذا! أيُّ امرأة تلك التي لم تكتفِ بحملها الأول الخفيف لتثقل كاهلها بحمل آخر يوازيها وزناً وحجماً وطولاً؟!

مرَّ شريط المشهد بالكامل أمام عينيَّ بارقاً متسارعاً: الباب، الطفلة ممددة فوقه، السيدة النحيلة، سلم الكوبري، السيارات المسرعة، المرور بين الإقبال والإحجام، قطرات المطر، الطين الزلق، الأقدام المنزلقة، سؤال الفتاة: كيف أشكر؟!

رددت ذاهلاً متلعثماً: لن تستطيعي.. لن تستطيعي.

قصة قصيرة

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد الغباشي
أديب مصري وباحث في الدراسات الإسلامية
المدير التنفيذي ورئيس تحرير منصة "رواحل" حالياً، ورئيس قسم الإصدارات والبحوث بمؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية "راف" سابقاً.
تحميل المزيد