ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنموذجاً باقياً دالاً على إمامة إبراهيم، عليه السّلام، وهو هذا البيت الحرام، الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام، حاطاً للذنوب والآثام، وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته وتذكرت به حالته. [تفسير السعدي، ص91].
وذكر لنا الله تعالى أنه جعل البيت المعظم مثاباً للناس، كلما رجعوا منه اشتاقوا له وحنت أفئدتهم إليه، وهذا تحقيق لدعوة إبراهيم عليه السلام الذي قال: {واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}.
قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
أ- {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ}
{وَإِذْ} للظرفية، وهي متعلقة بمحذوف تقديره "اذكر" يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه للناس، {جَعَلْنَا} أي: صيرنا، {الْبَيْتَ}: "أل" هنا للعهد الذهني، والمراد به الكعبة؛ لأنّها بيت الله عزّ وجل، وأتى هنا بـ"أل" للتفخيم والتعظيم، يعني: البيت المعهود الذي لا يجهل. [قصص القرآن، محمد صالح بن العثيمين، ص61].
وسمّيت الكعبة بذلك لتكعيبها، أي تربيعها ولارتفاعها ونتوئها، وارتفاع ذكرها في الدنيا، واشتهار أمرها في العالم، ولذلك يقولون لمن عظم أمره: فلان علا كعبه. [بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص30].
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عدة أسماء للكعبة؛ من هذه الأسماء: البيت العتيق، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وسبب تسميته بالبيت العتيق قيل فيه عدة أسباب، منها:
– أنَّ العتيق بمعنى القديم.
– أنّه لم يملك قط.
– لأنّه أعتق من الغرق زمن الطوفان. [مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، ص243].
وسمّيت مكة ببكة، حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ…}، وسبب التسمية، ذكر العلماء أقوالاً منها:
– لأنّها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله. [تفسير القرآن العظيم، تفسير ابن كثير، 2/57].
– لأنّها تقع من نخوة المتجبرين، يقال بككت الرجل أي وضعت منه، ووردت نخوته، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها. [زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 1/343].
ومن أسمائها: المسجد الحرام؛ قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. [بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص31].
ومن أسمائها: أم القرى؛ لشرفها وعلو كعبها على باقي القرى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]، وسمّيت بأم القرى؛ لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت، فصارت أماً لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه، وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}. [ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص186].
ب – {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}
أيّ: مرجعاً ومعاداً، كلما انصرفوا منه اشتاقوا إليه، فعادوا وثابوا إليه في الحج والعمرة والعبادة، فلا ينقضي منه الوطر، ولا تشبع منه النفوس، ويثوبون إليه أيضاً في الصلاة بقلوبهم، ويتوجهون إليه بأجسادهم، ويتذكرونه في كل يوم وليلة. [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217].
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}؛ تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة، بيت مأخوذ من البيتوتة، وهو المأوى الذي تأوي إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك، ولذلك سّميت الكعبة بيتاً؛ لأنّها في المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله، ومثابة يعني مرجعاً تذهب إليه وتعود، ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يجب أن يرجع مرات ومرات، إذاً فهو مثابة؛ لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربّه، وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته. [تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 1/575].
تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن، ولا تتذكر أولادك ولا شؤون دنياك، ولو ظلت جاذبية بيت الله تعالى في قلوب الناس مستمرة؛ لتركوا كل شؤون دنياهم ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصاً على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.
ومن رحمة الله سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه؛ لأنَّ الحجيج في بيت ربهم، وكلما كربهم شيء أو همهم شيء، توجهوا إلى ربّهم وهم في بيته، فيذهب عنهم الهمّ والكرب، ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، أفئدة وليست أجساماً، وتهوي أي يلقون أنفسهم إلى البيت، إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله؛ ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة. [تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 1/576].
هذا، وقد جعل الله تعالى بيته آمناً كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}؛ أي: جعلناه آمناً يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، ويأمن فيه حتى الصيد والأشجار أن تقطع وهو محل آمن لمن يسكنه، وكان الرجل في الجاهلية يرى قاتل أبيه وأخيه في الحرم، فلا يتعرض له، وكانوا لا يُغيرون على مكة مع شركهم، ولأجل توفير الأمن فيه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمل السلاح في مكة المكرمة، فقال: "لا يُحمل فيها سلاح لقتال". [تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217].
المراجع:
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله.
- تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد.
- تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان".
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.
- زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط4، 1407هـ، 1987م.
- زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج ابن الجوزي.
- قصص القرآن، محمد صالح بن العثيمين.
- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، تحقيق: مصطفى محمد حسين الذهبي، دار الحديث، القاهرة ط1، 1415هـ، 1995م.
- ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.