يعد المنفى من أقدم العقوبات القانونية في تاريخ الحضارة الإنسانية، حيث يعود بعض المؤرخين بأصله إلى الحضارتين الإغريقية والرومانية. كان المنفى من ضمن العقوبات القصوى في تلك الحضارات القديمة، الذي يتم تطبيقه على المدانين بكبير الجرائم، خاصةً من جموع النخب.
مع انتشار ظاهرة الاستعمار الأوروبي في جميع أنحاء العالم حاولت قوى الاستعمار الانتفاع من تلك العقوبة، عبر إرسال مجرميها إلى الأراضي المستعمرة، لخلق قوى عاملة جديدة للاستفادة من تلك الأراضي، كما فعلت بريطانيا بمستعمراتها الأمريكية والأسترالية.
في القرن العشرين أصبحت عقوبة المنفى واحدةً من أهم العقوبات السياسية، التي حاولت مختلف الدول من خلالها قمع الحركات السياسية المعارضة عن طريق نفي أهم رموزها وقاداتها. كان الهدف الرئيسي من العقوبة هو الحد من التأثير السياسي لهؤلاء القادة، والقضاء على الحركات أو الأحزاب التي ينتمون إليها.
إلا أن بعضاً من هؤلاء الرموز نجحوا في التغلب على ذلك القمع، والحفاظ على مواقفهم السياسية بعيداً عن أوطانهم، علاوةً على ذلك استطاع بعضهم قيادة مشاريع التغيير السياسي في بلادهم حتى من المنفى.
روح الله الخميني
كان الخميني من بين القادة الدينيين الأبرز في إيران منذ ستينيات القرن الماضي. حيث لم ينحصر دوره على الدعوة الدينية، ولكنه انطلق في معارضة سياسية علنية لشاه إيران آنذاك، محمد رضا بهلوي. أدى ذلك إلى اعتقال الخميني في عام 1963 ومن ثم نفيه إلى تركيا، في محاولة من الشاه للقضاء على تأثيره السياسي والحركي.
لم يمكث الخميني أكثر من سنة في تركيا، وانطلق بعدها إلى النجف بالعراق، وظل هناك حتى عام 1978. من النجف استطاع الخميني المساهمة في تطور الوعي السياسي المعارض للشاه، من خلال خطاباته حول السلطة والسياسة في الإسلام، والتي كانت تسجل ويتم إرسالها إلى إيران، حيث كانت ذات صدى واسع في دوائر المعارضة. كما استطاع كتابة وإصدار أشهر أعماله "ولاية الفقيه"، والذي أطر من خلاله لنظام الحكم السياسي الذي يطمح إليه.
تمكن الخميني من استثمار المنفى في مواصلة صراعه السياسي بنجاح، وتجلى ذلك في الحشود الضخمة التي كانت بانتظار عودته عقب نجاح الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، التي كان مرشداً أعلى لها حتى وفاته، في محاولة تطبيق عملية لنظرياته السياسية.
فلاديمير لينين
بدأت أنشطة لينين السياسية في البزوغ مع نهاية القرن التاسع عشر، واستطاع التواصل مع مختلف الحركات الماركسية والاشتراكية في روسيا منذ وصوله إلى سانت بطرسبرغ عام ١٨٩٣. كما أنه أعرب عن أفكاره الماركسية وسعى لتطويرها من خلال كتاباته المختلفة، ورحلاته للتواصل مع المعارضين الماركسيين للنظام الرأسمالي والبرجوازية في فرنسا وسويسرا وألمانيا. ألقت قوات الأمن الروسية القبض على لينين عام ١٨٩٧ بعد عودته من تلك الرحلة، ومكث عاماً في السجن دون محاكمة، قبل أن يتم نفيه إلى سيبريا.
قضى لينين أعوام سجنه ونفيه في محاولة نقد النظام الرأسمالي في روسيا القيصيرية والتنظير للثورة الماركسية المنتظرة في البلاد، كان كتابه "تطور الرأسمالية في روسيا" أبرزها. انطلق بعدها في رحلة أخرى حول أوروبا، ساعياً لتحقيق أهدافه، حتى نجح في التأسيس للحركة البلشفية، ومن ثم حث أتباعه على المشاركة في الثورة الروسية عام ١٩٠٥، إلا أنها باءت بالفشل في الإطاحة بالقيصر نيكولا الثاني من عرشه. لم يعطل ذلك الفشل مسيرة لينين، حيث تمكن من تشكيل حزبه البلشفي عام ١٩١٢ وشارك في الانتصار على روسيا القيصيرية من خلال ثورة عام ١٩١٧. نجح لينين في بلورة أفكاره من خلال تأسيس الحزب الشيوعي، الذي تمكن من قيادة الاتحاد السوفييتي حتى نهاية القرن العشرين.
شارل ديغول
لم يكن مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة ذا سمعة طيبة، خاصةً في العالم العربي، نتيجة مشاريعه الاستعمارية لإحكام قبضة فرنسا على الجزائر إبان حرب التحرير بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي. إلا أن ديغول يحظى بمكانة هامة في التاريخ الفرنسي، لقيادته حركة المقاومة أمام ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
كان ديغول قائداً لمدرعات الجيش الخامس الفرنسي، عندما اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية عام ١٩٣٩، ثم تم تعيينه مستشاراً حربياً في حكومة بول رينو، لاعتداد رجال الدولة بنجاعته الاستراتيجية، إلا أن مهمة ديغول لم تكتمل بعد استقالة رينو وتولي فيليب بيتان -الذي كانت حكومته على استعداد لتوقيع هدنة مع ألمانيا وإيطاليا- للمنصب، رفض ديغول الأمر وغادر باتجاه بريطانيا.
في بريطانيا قاد ديغول حركة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، داعياً القوات الفرنسية الموجودة خارج البلاد، في بريطانيا وشمال إفريقيا، للانضمام إليه وممارساً لأساليب الضغط السياسية، ليحث حلفاءه الدوليين على الانضمام إلى حكومته التي أصبحت تسمى حكومة فرنسا الحرة. نجح ديغول في تحقيق أهدافه واستطاع جلب الدعم اللازم وقيادة قواته لتحرير باريس عام ١٩٤٤. استمر ديغول في استثمار نجاحه السياسي والعسكري، والذي بدأه من منفاه، حيث أسس للجمهورية الخامسة وترأس الدولة الفرنسية لمدة عشرة أعوام حتى استقالته عام ١٩٦٩.
تشي جيفارا
القادة الآنف ذكرهم نجحوا في قيادة شعوبهم وتحقيق ما تمنوا لأوطانهم من المنفى، أما جيفارا فقد استطاع أن يصنع من غربته وطناً زرع فيه بذور التغيير السياسي والاجتماعي الذي لطالما حارب في سبيله. لذلك كان جيفارا قدوة للعديد ممن طمحوا لتغيير واقعهم السياسي، وانتشرت صورته رمزاً للمقاومة بين صفوف المناهضين للاستعمار والنظم الرأسمالية حول العالم.
بدأت رحلة نضال جيفارا منذ أن كان طالباً للعلوم الطبية في جامعة بيونس آيريس بالأرجنتين، وعندما انطلق منها في رحلة حول أمريكا اللاتينية، شكلت تلك الرحلة وعيه بالواقع السياسي للاتينيين، وكانت أولى محطاته الهامة هي غواتيمالا، هنالك شارك في محاولات الإصلاح السياسي تحت حكم جاكوبو أربينز.
لكن تعد المكسيك هي المحطة الأهم في الرحلة، حيث قابل راؤول كاسترو، شقيق فيدل كاسترو، وزملاءه الكوبيين عندما كانوا يقضون عقوبة المنفى في المكسيك. انضم جيفارا للثورة الكوبية في صراعها مع فولغينسيو باتيستا، ديكتاتور كوبا آنذاك. بعد نجاح الثورة الكوبية في الإطاحة بباتيستا وتأسيس النظام الشيوعي، شغل جيفارا مناصب عدة في حكومة كاسترو، حيث كان وزيراً للصناعة، ورئيساً للبنك المركزي، إلا أنه لم يكتفِ بذلك القدر، وعمل على حمل راية الثورة في الكونغو (كينشاسا)، وفي بوليفيا، حيث تم إلقاء القبض عليه وإعدامه بمساعدة القوات الأمريكية، ليلقى جيفارا حتفه مدافعاً عمّا آمن به، وفي أرض لم تكن مسقط رأسه؛ لكنها كانت تجسيداً لأفكاره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.