“حجة الأغلبية” التي قد يراوغك بها المتحدث لينهي الحوار متوهماً انتصاره.. كيف تكشف ذلك؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/02 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/02 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
حجة الأغلبية - تعبيرية/ shutterstock

حُجّة الأكثرية | Argumentum ad populum: تُدعى كذلك حجّة الأشياء الأكثر شعبيّة، أو الدعوة للأكثريّة، أو سُلطة الغالبيّة، أو حكم الأغلبية، أو حجّة الرأي الغالب، وغيرها من التسميات والأوصاف التي تضعنا تماماً في قلب أكبر المشاكل الاجتماعية والعلمية والدينية إذا أردت شمل الأمور المهمّة في حياة الفرد.

سأعرّج قبل الدخول في الموضوع عن قضية الحجّة والمحاجّة من الناحية المنطقية. الحجّة في الأصل هي حِيَل تربّينا عليها لتسهيل تعاملاتنا مع الناس، والخروج من الورطات أكثر من تبرير صحة ما نقول. وغالباً، يتعلمها الطفل في المنزل من أحدِ الأبوين، فالكذب هو في الغالب عمليّة تكوين حجّة بشكل سريع للخروج من المأزق، وبشكل أوسع، هو محاولة إنقاذ الذات من الخطر، إلى حد خطر الموت بالمطلق.

فجسمنا يتعامل مع الأشياء والمحيط بشكل بدائي وقاعديّ، فمثلاً، يتدفّق هرمونا الأدرينالين والكورتيزول في الجسم عندما نتعرّض للخطر أو للقلق والتوتر المكثّف، ولا يفرّق العقل (النخامية الأمامية: مركز الإشارة لتدفق الهرمونات) بين المزاح والحقيقة، ففرقعة كيس بلاستيكي ستسبّب نفس العمليّة الهرمونية التي تسبّبها طلقة رصاص حيّ قريبة منّا. كذلك، أسلوب النجاة بالذات من الخطر لا يتغيّر بين كذبةٍ بيضاء سخيفة، مثل القول بأنكَ لم تأكل التفاحة المتبقيّة في الثلاجة، وكذبة سوداء مجرمة، كالقول بأنك كنت تنصح الناس بالمخدرات لينسوا همومهم سريعاً.

فعرفنا أن منطلق تكوين الحجّة له نفس المبعث، ألا وهو تبرير موقفك. فالمُحاور الجيّد ليس ذلك المتكلّم اللطيف والهادئ، بل هو الذي يتحكّم في طرق المحاجّة، حتى لو كانت حججه خاطئة، أو صحيحة لكن في غير محلها، كالاستدلال بآية ما في غير مكانها، ما يقال عنه (نعمَ الدليل، وبئس الاستدلال).

والذي يتصدّر للمناقشة، يملك ثقة بأسلوبه في طرح الحجج، أكثر من الحجج نفسها، فأغلب من يفوزون بالمناظرات، هم أناس يسوقون الحديث إلى الأشياء التي يتحكّمون فيها. فتجد المُحاور ينقل الحديث إلى ميدانه دون أن يشعر خصمه، ويُسهب في الحديث، حتى يظنّ الطرف الثالث أنه يفحمه بالحجج.

وبعد أن تكلمنا عن الحجة بشكل عام، أتكلم الآن عن حجّة يستعملها الأفراد حول أنفسهم أو حول غيرهم، ليبرّروا صِحّة ما يقولونه، بل ويجعلونه حجّةً في ذاته، فحجّة الأكثرية تُستعمل دائماً، عندما يجد المرء نفسه محاصراً بالحقيقة التي لا يتبناها الغالبيّة، فيدفعه ذلك إلى بلوغ نقطة "جودوين" سريعاً، (نقطة جودوين هي فكرة للصحفي مايك جودوين، صنعه ليشير إلى بعض الناس الذين يريدون إنهاء الحديث بوصفك بشيء مشين، كالقول إنك نازي)، بالقول إن الناس ليسوا على هذا، أجمع الغالبية على هذا الرأي، أجمعت الناس على صواب ذلك الإنسان، اتفق الجميع على صلاح ذلك الفرد، اتفق الجميع على فساد ذلك الفرد، الجميع يقوم بهذا الشيء، إنها العادات، إنها التقاليد، فكما يقول الشاعر دريد بن الصمة: 

ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ … غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ

فالقول عند مستعمل هذه الحجّة هو قول الأغلبية، وهذا يسوقنا إلى مصائب كبيرة.

فقد يختار الناس الأمور الطيّبة، وهذا أمر حسن، فقد يختارون بالصدفة رجلاً حكيماً ليقودهم إدارياً وفكرياً وعلمياً، وفي غالب الأحيان لا يفعلون، ذلك أن التخصصات تحتاج متخصصين، وليس لرأي الغالبيّة، إلا إذا أزحنا موضوع الإمارة، الذي يُحتكم إليه بتصويت الأغلبية.

حجة الشعبويّة هي سفسطة تُفسد كل الحوارات، وليس فيها نصيب من العلم، ذلك أن العلم والنص لا يحتكم للرأي، ولا ينساق للهوى، بل يعتمد على الصحيح، حتى لو خالفه كل من في الأرض، لكن المصالح تمنع رواج الصحيح إذا لم يتقبله الناس، فالإعلام وبعض صُناع المحتوى في كل المجالات، لا يبحثون عن الحقيقة، بل يبحثون عما يُثير الأغلبية.

وعندما يكون الرأي الغالب هو مصدر مال وقوت، فلن يصبح للحق والعلم مكان، فإذا أصابوا شيئاً من العلم، فاعلم أنه علم اتفق عليه غير المتعلمين، عن علم بصدقيّته، أو عن جهل بأنه ينافي ما يريدونه. وأصبحت الإشهاريات تعتمد هذه الحجة بطريقة فاضحة، فكل صحيفة تدّعي أنها الأولى في المبيعات، وكل عطر ولبس وأكل وآلة تدّعي شركاتهم أنهم الأكثر رواجاً والأكثر اقتناءً واستعمالاً، فتسقط حفنة من الناس في ذلك التسويق الرخيص الناجح، وتلك الحفنة تجلب مجموعة، وتكبر كرة الثلج التي تتدحرج شيئاً فشيئاً وهي تكبر وتكبر، وقد بدأت من كذبة سخيفة ساغت على الناس.

والخطر الكبير يكمن في أن هناك أطباء وفقهاء ومفكرين يستعملون حجة أنهم متبوعون من نفر كبير من الناس، ليبرّروا صحة مسلكهم، ويُبرّر لهم ذلك بنفس الحجة، فالناس يقولون: انظروا! قارب فلان المليون متابع، كيف يكون مخطئاً وهو مشهور هكذا!

أو يُقال: انظروا، هو متبوع إذاً هو روائيّ رائع، إذاً هو فيلسوف عظيم، إذاً هو عالم مُعتبر، إذاً هو مُفتٍ قويم. ويتجاهل الكثير من الناس أن الرجال، في أي تخصص كان، يُعرفون باتباعهم الحق (والعلوم والحقائق)، وليس الحق هو من يتبعُ "شهرتهم وذيع صيتهم"! وهناك من يعتمد فوق هذا حجة التكرار حتى القيء ARGUMENTUM AD NAUSEAM  وهو تكرار الشيء حتى يعتقد الناس أنه الحق المبين.

فاحذروا من حجة الرأي الغالب والشائع، فهي غالباً مسلك غير علمي، وكما يقول سبحانه وتعالى في آيات عدة عن أحوال الناس: أغلب الناس لا يعلمون، لا يفقهون، لا يعقلون.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عماد الدين زناف
كاتب جزائري
كاتب جزائري
تحميل المزيد