كانت الساحات تهتف باسمه والجميع يردد: "انتخبوا قيس سعيد.. انتخبوا الثورة"، ولم يكن يخطر ببال أحدهم أن يكون هذا الهتاف سبباً في إعادة البلاد إلى فتراتها الحالكة، وأن يسهم بدعوته الناس إلى انتخاب قيس سعيد في إيصال من يعيدها إلى زمن الظلم والاستبداد.
لم ينتظر هؤلاء طويلاً حتى أخذ البعض منهم يكتشف وجهاً مغايراً للرئيس سعيد، لتأتي لحظة 25 يوليو (تموز) لتظهر لجلهم "الخديعة الكبرى". كانت لحظة الانقلاب لحظة صدمة لعدد كبير من التونسيين، إلا أن الصدمات لم تتوقف عند ذلك التاريخ، بل تبعتها أخرى، بفعل ما أعلنه سعيد من إجراءات مسّت من جوهر الحرية والديمقراطية التي اكتسبتها تونس إثر ثورة يناير.
ليلة الثلاثين من يونيو المنقضي، وبمجرد أن اطلع التونسيون على نص مشروع دستور قيس سعيد الجديد، ازداد يقينهم بأنهم فعلاً خُدعوا وأن سعيد الذي طالما ردد أنه لا رجوع إلى الوراء قد أعادهم إلى الوراء كثيراً عبر دستور شبيه بذاك الذي اعتمده بن علي في تكريس الظلم والاستبداد.
دستور قيس سعيد الشخصي
اللافت للانتباه أن الإحساس بالخديعة لم يتوقف حد عموم التونسيين، بل بلغ أعضاء اللجان الذين شاركوا في صياغة الدستور حينما اكتشفوا أن جلساتهم كانت صورية، وأن الرئيس لم يعتمد النسخة التي سلمه إياها رئيس الهيئة الوطنية لتأسيس جمهورية جديدة العميد الصادق بلعيد.
فعلقت إحداهن أنها مثل محمود درويش لا شيء يعجبها في إشارة إلى دستور سعيد بعد أن تساءلت في تدوينة سابقة عن مآل أشغال لجان صياغة الدستور، وخاصة تلك المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
أيضاً، أستاذ القانون الدستوري ونائب رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية لتأسيس جمهورية جديدة أمين محفوظ، نشر تدوينة قال فيها "إنه ليس ابني"، فهم الجميع منها أنه يقصد الدستور المنشور في الجريدة الرسمية.
وصرح رئيس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية إبراهيم بودربالة بدوره، بأن "النص المنشور ليس هو نفسه الذي سلمته اللجنة لرئيس الجمهورية"، معللاً ذلك بأن أشغال اللجنة استشارية، وأن السلطة تعود لرئيس الجمهورية في نشر ما يراه مناسباً للاستفتاء، وقال بودربالة إن بين دستور اللجنة ودستور سعيد تقاطعات عديدة أبرزها نقطة النظام السياسي.
العودة إلى النظام "الرئاسوي"
وقد كان النظام في دستور 1959 نظاماً رئاسياً، إلا أن ما يعاب على بن علي خلال فترة حكمه أنه حول النظام الرئاسي إلى نظام رئاسوي، أي جعل السلطة مطلقة لرئيس الجمهورية رغم تعارض ذلك مع نص الدستور.
إثر ثورة يناير 2011، اتفق أعضاء المجلس الوطني التأسيسي على أن النظام الرئاسي هو منطلق مسار الاستبداد والتفرد بالسلطة زمن بن علي وأقروا نظاماً برلمانيّاً معدلاً لمنع هذا الانزياح. إلا أن قيس سعيد ومنذ توليه الحكم ردد في أكثر من مناسبة بأن هذا النظام هو سبب الأزمات السياسية التي عرفتها تونس قائلاً: "لو كان نظام الحكم رئاسياً لما آلت الأوضاع إلى هذا المستوى من الخراب".
انتظر البعض أن يعتمد سعيد النظام الرئاسي في دستوره الجديد، ثم قد ينزاح إلى نظام رئاسوي كما فعل بن علي، إلا أنه اختار طريقاً مختصرة نحو الرئاسوية من خلال "دستَرَتها"، حتى بلغ الأمر ببعض النقاد إلى وصف النظام في تونس وفق دستور سعيد بالجملكة أي مزيج بين الجمهورية والملكية.
فقد منح سعيد لرئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة وجعله فوق البرلمان والحكومة وبقية "السلطات" التي نزع عنها صفة السلطة وجعل منها وظيفة حسب نص دستوره.
وظائف لا سُلطات
وفي تعارض صارخ مع مبادئ القانون الدستوري وقيم الديمقراطية، وعلى خلاف ما ورد في دستور 1959 ودستور 2014 اعتبر مشروع دستور قيس سعيد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مجرد وظائف للدولة وأن السلطة للشعب دون سواه.
وإنْ حصرَ سعيد السلطة التنفيذية في "وظيفة" رئيس الجمهورية بصلاحيات "سلطان" فإنه همش دور البرلمان والقضاء دون أن يكون هناك أي توازن بينهما، ليعود البرلمان إلى ما كان عليه زمن بن علي، أي مجرد جهة للمصادقة على القوانين مع حجب الدور الرقابي على الجهات التنفيذية عنه.
ولم يكتفِ دستور سعيد بتهميش الدور التشريعي وإسناد صلاحية التشريع وتعديل النصوص لرئيس الجمهورية، بل قسمه بين البرلمان وهيكل جديد سمّاه المجلس الوطني للجهات والأقاليم. وإن يرى البعض أن هذا التقسيم يراد به المزيد من إضعاف المؤسسة التشريعية فإن البعض الآخر يعتبر في التنصيص على هيكل المجلس الوطني للجهات والأقاليم خطوة نحو التأسيس الهيكلي لنظام البناء الديمقراطي القاعدي الذي طالما بشر به قيس سعيد والذي يشبهه معارضوه بنظام اللجان الشعبية في عهد معمر القذافي.
ومن المفارقات في دستور قيس سعيد، التي لم ترد حتى في دستور بن علي، أن المجلس التشريعي لا دخل له في ضبط السياسات العامة للدولة ولا في تعيين الحكومة أو إعطائها الثقة ولا يمكنه سحب الثقة من وزير أو الحكومة إلا أنه وفي حالات عديدة مهدد بالحل من قبل رئيس الجمهورية.
وفي تطابق بين الفصل المائة والعشرين من دستور قيس سعيد والفصل السادس والستين من دستور 1959 (دستور بن علي) ورد أن تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية. وهمّش دور المجلس الأعلى للقضاء الذي اعتبره دستور 2014 هيئة مستقلة، كما حجر على القضاة حق الإضراب وفق البند 41 من دستوره.
نحو دولة لائكية!
زمن بن علي كان بعض المعارضين يعتبر أن البند الأول من دستور 1959 الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام من النصوص المتروكة، بفعل سياسات الدولة المهمشة لدور الدين والمستهدفة لجميع مظاهر التدين.
إثر الثورة حصلت مصالحة بين الإسلام والمجتمع، وظهرت مؤسسات وجمعيات عاملة على رفع حالة التصحر الديني التي أصابت المجتمع زمن بن علي وساهمت في بروز ظواهر التطرف والإرهاب، إلا أنه ومن خلال ما ورد في دستوره الجديد يبدو أن سعيد، قد اقتفى أثر بن علي في هذا الاتجاه لكن بشكل أوضح، حيث سقط من دستوره ما ورد في دستور 1959 ودستور 2014 من تنصيص بأن الإسلام هو دين الدولة، واكتفى بذكر أن تونس جزء من الأمة الإسلامية وأن الدولة وحدها تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف.
ويطرح السؤال حول القصد من ذلك؟ وهل يفهم من خلال ما ورد في دستور سعيد الجديد أن الدولة ستعود إلى لعب دور المفسر للشعب دينه وفق فهم السلطة والتضييق على كل نشاط ديني مجتمعي كما كان زمن بن علي؟
جاء مشروع الدستور الجديد ليؤكد أن قيس سعيد، وإن لم يترك مناسبة ليصرح فيها بأنه ماضٍ نحو التأسيس لجمهورية جديدة تنطلق من شعارات ثورة الحرية والكرامة، فهو وبفعل ما يكرسه من إجراءات ونصوص قانونية وآخرها مشروع الدستور الجديد ماض في إعادة "جمهورية بن علي"، وأن أفكاره الجديدة ليست سوى استمرار لأفكار نظام الاستبداد بمساحيق شعبوية.
ويبدو أن قيس سعيد وهو يصوغ دستوره الجديد، قد انتبه الى أنه مهما حاول مراوغة التونسيين، فإن حقيقته تنكشف لهم يوما بعد يوم. وأنه مهما تفنن في حبك وتطريز نصوص يعتقد أنها ستكون أسواراً منيعة بينه وبين غضب الشعب، فإن الغضب آتٍ لا محالة، وأن الثورة على الاستبداد وحكم الفرد ومحاسبة المسؤولين عليه لن توقفها النصوص القانونية.
لذلك جاء في الفصل 110 من مشروع دستوره أن رئيس الجمهورية يتمتع بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وأنه لا يسأل عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه.
فهل يعتبر سعيد من التاريخ ويعلم أن السلطة لو دامت لغيره لما ألت اليه وأن التاريخ شاهد على حكام عدة لم تحصنهم دساتيرهم وسلطتهم المطلقة من ثورة شعوبهم، أم أنه سيواصل في نفس الاتجاه غير عابئ بالتاريخ وأخباره وواقع التونسيين المؤلم، وما قد تؤول له أزماتهم الاجتماعية والاقتصادية من "انفجار حقيقي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.