ربما لو سألت معظم من تردّد في الهجّرة لماذا لم تهاجر بعد؟ سيجيبك: "أخشى على أبنائي"، ولا شك أن دوافع الخشية متعددة ومتشعبة ربطاً باختلاف العادات والتقاليد والمعتقدات في المهجر ودول اللجوء.
هذا ما يؤكّده وتثبته تجربة السابقين من المهاجرين وتدعمه ملاحظات ومشاهدات الوافدين الجدد؛ ما يعني أن ثمّة تحدياً يستدعي وقفة جادة ومسؤولة تبحث في كيفية التعاطي مع هذه الخشية وهذا التخوف الذي بات هاجساً يؤرّق الجميع، وتحديداً شريحة الوافدين حديثاً؛ لأن المهاجر الذي أمضى عقوداً في هجرته قد راكم خبرة وتجربة في هذا المجال، وهنا يمكننا القول إن البداية ربما تكون بالاتكاء على هذه الخبرة والتجربة؛ للإفادة من إيجابياتها وتلافي سلبياتها، وفي عنوان الحفاظ على الهوية بالذات هناك الكثير مما يمكن البناء عليه، مع مراعاة التطور الذي حدث خلال العقود السابقة للوصول إلى مقاربات تناسب الواقع الجديد وتجترح له حلولاً وفقاً لكل مستجد.
لا جدال ولا نقاش في أهمية الحفاظ على الهوية، ولا ينبغي الاستغراق في ذلك، وإنما الحاجة تستدعي التعمق في كيفية ذلك والبحث في أدواته وآلياته، هنا تبرز المأسسة دون الاستغناء عن تجارب فردية كان لها بصمتها في هذا الصدد، لكن المأسسة تبقى الأنجع والأجدى بحكم التجربة، وعند الحديث عن المأسسة وكما في كل جغرافيا، تطفو على السطح إشكالية وجدلية التعدد والتضخم، ودائماً نقول في ذلك: لا مشكلة في تعدد المؤسسات، لكن التضخم سيحجز أمكنة ومساحات تملؤها العناوين، فيما تفتقر إلى العمل والإنتاج والفائدة المرجوة في خدمة الأهداف الحقيقية.
بالطبع لا يمكن الحديث عن الهوية بشكل منفصل عن الثقافة والتراث، فهما ركيزتان أساسيتان في ترسيخها والحفاظ عليها، وتأتي اللغة لتشكل العمود الفقري لكل ذلك، وعليه فإن المنطلق الأساسي لتعزيز الهوية والتمسك بها هو اللغة التي تعكس الثقافة بكل أنواعها وتفاصيلها، وتبرز التراث بمختلف أشكاله وعناوينه.
كما لا يمكن أن نغفل مدى ارتباط وتجذر الهوية الفلسطينية بالاستناد إلى الرواية التاريخية الفلسطينية الحقيقية التي أرّقت دوائر صنع القرار لدى الاحتلال، فعمد إلى بذل كل ما في وسعه لطمسها وتشويهها وتقديم روايته المزيفة، وسلوكه هذا يفتح الباب على تعزيز مفهوم الانتماء الملازم للهوية والداعم للرواية الفلسطينية بكل تفاصيلها من رموز وموروث شعبي وفلكلور وعادات وتقاليد في كافة مناحي الحياة اليومية، وبما تكتنزه الذاكرة وما تم رصده وتوثيقه.
وعليه، لو أردنا أن نرسم ملامح ومحددات خارطة طريق فعلينا أن نبدأ بالمأسسة، بحيث يكون عمودها الفقري اللغة العربية، بوصفها رمزاً من رموز الهوية، وركيزة للثقافة، بما تحمله الثقافة من عادات وتقاليد ونمط حياة وسلوكيات عامة للأفراد داخل إطار المجتمع، تساهم في تشكيل وعي لدى الأفراد لهويتهم.
ويأتي التاريخ عبر الرواية التاريخية التي تعتبر مكوناً أساسياً من المكونات التي تشكل وتصيغ الهوية. وباجتماع كل المكونات السابقة ومع انتقالها من جيل إلى جيل وبالتمسك بها بوعي حقيقة الانتماء يمكننا بناء لبنة مهمة من لبنات الحفاظ على الهوية.
لا شك أن دون ذلك عقبات وتحديات مرتبطة بطبيعة القارة الأوروبية، فاتساع جغرافيا القارة الأوروبية مثلاً تحدٍّ ومعوّق ملحوظ في هذا الصدد، لكن التكنولوجيا الحديثة واجهته وتجاوزته في محطات ومواقع كثيرة، فضلاً عن أن جرعة زائدة من التشبيك والتنسيق على قاعدة أن فلسطين تجمعنا والحفاظ على هويتنا يدعم ويعزز ذلك ويعظم من شأنه ويجعل طريقنا أقل وعورة وأسهل مسلكاً في خضم هذه الهجمة الشرسة على قضيتنا الفلسطينية.
أُدرك أن تناول موضوع متشعب وواسع كهذا باتساع رقعة انتشار شعبنا الفلسطيني في جهات العالم الأربع، لكن أهميته تفرض علينا ذلك، وإن قدّمنا في هذا المجال أقل المقاربات فهي جزء من ضرورة تضافر الجهود لسد ثغرة لا يمكن تجاوزها أو القفز عنها عند الحديث عن الثوابت الوطنية الفلسطينية، وفي القلب منها حق العودة الذي تصونه وتعتبر أحد ضماناته الهوية الفلسطينية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.