من أوائل الروايات التي قرأتها في حياتي رواية "دكتور جيكل ومستر هايد" للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنسون، وقد شدني إليها جو الغموض الذي يكتنف معظم مشاهدها، ثم الفكرة الفلسفية الغريبة التي قامت عليها الرواية؛ فكرة الصراع بين الخير والشر في النفس البشرية، فمن منا لم تدُر بداخله معركة عندما يهم بعمل معصية ما؟ معركة تدور رحاها داخل نفسه بين النزوع للخير وميل النفس الفطري للهوى.
دكتور جيكل رجل طيب، ولكنه يصادق رجلاً شريراً يسمى مستر هايد، يكرهه الجميع بمجرد أن يراه، ويستفسر الكل عما قد يجمع هذا الرجل الطيب بذلك الشخص المقيت، والمفاجأة أن الدكتور جيكل أخبر محاميه أن يجهز وصية تؤول بها كل أملاكه إلى صديقه البغيض مستر هايد في حالة موته أو "اختفائه".
يستغرب المحامي ويحاول إثناء صديقه جيكل عما اعتزم عليه، إلا أن جيكل لا يقبل حتى مجرد الحديث حول هذا الأمر، بل إن المحامي يتفاجأ أن هايد هذا معه نسخة من مفاتيح منزل جيكل، بل إن خدم المنزل مأمورون باتباع تعليماته تماماً كصاحب المنزل.
تمر الأيام ويرتكب هايد جريمة قتل يصبح نتيجة لها هارباً من العدالة، وعلى هذا الأساس أعلن جيكل انقطاع علاقته بهايد تماماً، وبدأ في ممارسة ما كان انقطع من حياته العامة، ولكن فجأة يختفي دكتور جيكل، ويرفض استقبال زوار في منزله، وفي ليلة عاصفة يأتي رئيس خدم جيكل إلى المحامي ليخبره أن سيده في خطر، وأنه من الممكن أن يكون قد قتل؛ لأنه يغلق حجرته على نفسه ويصرخ باستمرار طالباً نوعاً معيناً من الدواء، وادعى رئيس الخدم أن هايد الشرير هو من بداخل الحجرة.
ذهب المحامي إلى منزل جيكل وخاطبه من وراء الباب، إلا أنه سمع صوت هايد يترجاه أن يرجع، عندها صمم المحامي على كسر الباب، ليجد هايد منتحراً في ثياب دكتور جيكل. ذهبت كل محاولات المحامي في البحث عن جثة جيكل سدى، فقرر أن يفتش في أغراضه، فوجد ظرفاً مكتوباً عليه، لا يفتح إلا في حالة موت أو "اختفاء" دكتور جيكل، فشعر المحامي أن حل اللغز يكمن في الأوراق التي بداخلها المظروف، وبفتحه للأوراق قرأ أغرب قصة في حياته، فقد اكتشف أن مستر هايد الشرير القبيح هو صديقه الدكتور جيكل، فكيف هذا؟
كان الدكتور جيكل مشغولاً منذ الصغر بالصراع الدائر داخل جوانب نفسه بين الخير والشر، فكان يتمنى أن يهتدي إلى مركب كيميائي، يستطيع أن يخرج به قوة الشر التي تعيش بداخله ليصنع ما يشاء بعيداً عن حاجز الحياء من المجتمع أو الخوف من المسؤولية، وبالفعل استطاع أن يصل لهذا المركب الذي يتحول بمجرد أن يشربه إلى الشخص البغيض القبيح هايد، وهايد هذا هو مطلق الشر في نفسه، وقد استمتع جيكل بهذا الأمر إلى أبعد حد ففي النهار كان الدكتور جيكل المحترم من كل الناس الناجح في عمله، وفي الليل يتحول إلى هايد ليمارس كل نزواته وشهواته دون رابط أو ضابط.
والملاحظ أن هايد كان ضئيل الحجم للغاية عندما انطلق أول مرة، حتى أعماله كانت أعمال مجرد صبي شرير، ومع الوقت أخذ حجمه يكبر، وأعماله تزداد شراً وخسة، وكان التحول من هايد لجيكل يتطلب كوباً واحداً من المستحضر الكيميائي، إلا أن هذه الكمية لم تعد كافية للتحول إلى جيكل، بل إن الأمر زاد تطوراً لدرجة أن هايد أصبح يأتي بدون المستحضر، ومع الوقت استحوذ هايد ولم يعد جيكل يستطيع العودة، مهما شرب أي كمية من المستحضر، إلى أن انتهى هذه النهاية الرهيبة.
تعقيب
كم من شخص دخل إلى المعصية من باب التجربة، مصحوباً بالكثير من التطمينات بسرعة التوبة والرجوع إلى الطريق الحق والخير، ولكنه يجد نفسه وقعت أسيرة لحب هذه المعصية، والتي تقتل في نفسه كل حب للخير والطاعة كما قتل هايد جيكل.
فالخير والشر، والفجور والتقوى، طبائع موجودة داخل كل إنسان، فقد قال الله في كتابه العزيز: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"، ولكن الكيّس من نما الخير في قلبه، ولم يُتبع نفسَه هواها، وألزم قلبه التقى والعفاف، وإياك إياك من استصغار المعاصي فإن هذا الاستصغار يورث قسوة القلب "فمعظم أهل النار من مستصغري الشرر"؛ لذلك عليك أن تبادر بالتوبة بمجرد أن تقع في المعصية، وإياك إياك من القنوط من رحمة الله التي وسعت كل شيء، واستعن به سبحانه لئلا تستحوذ عليك نفسك، وألا يضع الران على قلبك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.