تحدث الهجرات الجماعية في غالب الأحيان لأسباب اقتصادية واجتماعية، أي بسبب الفقر والجوع والرغبة في تحسين المستوى المعيشي للفرد والأسرة، وهو الأمر الذي ينطبق على المهاجرين الجزائريين إلى أوروبا، وإلى فرنسا على وجه الخصوص.
ومن غرائب الصدف أنّ احتلال فرنسا لأرض الجزائر، بداية من سنة 1830، كان هو السبب الرئيسي في هجرة أبناء هذا البلد إلى أرض "العدو"، والتي كانت في البداية عبارة عن هجرة مؤقتة، قبل أن تتحول مع مرور الزمن وتوالي الأحداث الى شبه استيطان.
فعند احتلال فرنسا للجزائر في سنة 1830، ثم إعلانها مقاطعة فرنسية في عام 1848، قدم مئات الآلاف من الأوروبيين، وهم، إضافة للفرنسيين، من الإسبانيين والإيطاليين والمالطيين الذين استولوا بقوة سلاح المستعمر على أفضل المناطق الحضرية وأجود الأراضي الزراعية؛ ما أدى إلى إفقار معظم السكان الأصليين في ظل إخماد ثوراتهم المتفرقة والمتعددة من حيث المكان والزمان.
ومع انتهاء آخر الثورات الشعبية في أواخر القرن التاسع عشر، وازدياد الفقر في المناطق الريفية، بدأ اللجوء إلى الهجرة كحل مؤقت للاستمرار في الحياة.
وكانت هجرة الريفيين الجزائريين، بحثاً عن العمل وعن لقمة العيش، نحو المدن الحضرية الكبيرة بالجزائر ونحو فرنسا أيضاً، وذلك بحكم أنّ هذا البلد المسلم، كان يعتبر، في ذلك الوقت، مقاطعة فرنسية.
بداية الهجرة في أواخر القرن الـ19.. ومن منطقة واحدة
وبحسب البوابة الرقمية لمتحف الهجرة بفرنسا، فإنّ المهاجرين الجزائريين الأوائل إلى فرنسا كانوا يأتون من منطقة واحدة، وهي منطقة القبائل، بشمال البلاد، والتي تشكل حالياً ولايتي تيزي وزو وبجاية وجزءاً من ولايات سطيف وبومرداس وبرج بوعريريج.
وكانت مدينة مرسيليا، بجنوب فرنسا، هي المنطقة الأولى التي استقر بها المهاجرون الجزائريون، بحكم أنّها كانت تضم الميناء الذي ترسو به البواخر القادمة من الجزائر، وذلك قبل أن تتوسع الهجرة مع مرور السنوات نحو مدن أخرى، كالعاصمة باريس وليون وسانت إيتيان.
واشتغل الجزائريون في البداية في الحقول والمزارع، وحمالين في الميناء وباعة متجولين، ولكن مدة بقاء المهاجر في الغربة لم تكن تتجاوز السنتين، حيث كان، بعد تلك المدة، يعود ببعض المال إلى قريته الريفية ليخلفه فرد آخر من العائلة أو من القرية، في مكان العمل نفسه وفي المسكن نفسه الذي يؤويه في فرنسا، وذلك وفق العُرف والاتفاق الذي كان معمولاً به في القرية التي جاء منها، حتى إنّ أهله كانوا يُزوجونه قبل الرحيل إلى فرنسا حتى يضمنوا عودته إلى البلد.
نفهم من هذا أنّ الهجرة الجزائرية الأولى إلى فرنسا، كانت من منطقة واحدة، وهي "القبائل"، ثم توسعت تدريجياً لتشمل المناطق الريفية الأخرى من البلاد، كما أنّ الشاب كان يجرب حظه في الغربة بمفرده، أي دون أفراد عائلته، ما يفسر العدد غير الكبير الذي تم إحصاؤه حول المهاجرين الجزائريين في فرنسا في عام 1912، بحسب البوابة الرقمية نفسها، والذي بلغ ما بين 4000 إلى 5000، منهم حوالي ألف مهاجر بالعاصمة الفرنسية.
وبحكم أنّ الجزائريين كانوا مستعمرين، فإنه لم يكن اعتبارهم في تلك الفترة مهاجرين أجانب، بل كان عند إحصاء المهاجرين، يُكتب أمام أسمائهم، جملة تقول: "عمال قادمون من الجزائر".
ولكن العدد الحقيقي كان أكبر بكثير بحكم أنّ الكثير من المهاجرين كانوا يأتون ويرحلون ثم يعودون، وفق الاتفاق المُشار إليه، ما شكل جالية جزائرية بفرنسا.
كما شكل العمال المهاجرون من الجزائر نواة مجتمعية حقيقية في فرنسا على أساس الأسرة أو القرية أو المنطقة الأصلية التي جاؤوا منها، بحيث كانوا يجتمعون وينشئون شبكة من التضامن والتواصل الاجتماعي تسهل الوصول للسكن، أو الظفر بعمل، بالإضافة للاطلاع على أخبار البلد بشكلٍ دائمٍ والحفاظ على لغتهم ودينهم وثقافتهم المشتركة.
ارتفاع العدد بشكل رهيب في الحرب العالمية الأولى
وخلال الحرب العالمية الأولى من (1914 إلى 1918)، زادت الهجرة الجزائرية إلى فرنسا بشكل رهيب، نظراً لحاجة الدولة الاستعمارية لليد العاملة وللجنود العسكريين، فتم استقدام نحو 100 ألف عامل و175 ألف مجند إجباري، من كل مناطق الجزائر.
وعلى الرغم من إرجاع فرنسا معظم العمال المؤقتين والمُجندين العسكريين إلى الجزائر بعد نهاية الحرب، إلّا أنّ الكثير منهم بقي في المهجر، فبلغ عدد المهاجرين الجزائريين، وفقاً للبوابة الرقمية نفسها 35 ألف شخص في سنة 1921 ثم ارتفع إلى 85 ألفاً في 1936، قبل أن ينخفض قليلاً إلى 72 ألفاً، عند اندلاع الحرب العالمية في 1939.
مسجد ومقبرة إسلامية ومستشفى للعرب!
ومع مرور السنوات وتزايد عددهم وتعدد المهن التي يشغلونها، فقد بدأ المهاجرون الجزائريون يجدون اهتماماً خاصاً من السلطات الفرنسية ببلاد الغربة؛ إذ وبعد تدشين مسجد باريس الكبير في عام 1926، تم منح إدارة تسييره للجزائري قدور بن غبريط.
وقد استمر تعيين جزائري كعميد لمسجد باريس والمركز الإسلامي التابع له، إلى غاية الآن، حيث يشرف على المهمة حالياً، المحامي شمس الدين محمد حفيظ، الذي ولد في سنة 1954 بالجزائر العاصمة، وهاجر إلى فرنسا في 1991.
وإضافة للمسجد الكبير، فقد بنت فرنسا، في سنة 1935 مستشفى، بضواحي باريس، موجهاً بالخصوص للمرضى العرب، أغلبهم جزائريون، وصُمّم على الطراز العربي الأندلسي، وتمت تسميته "المستشفى الفرنسي المسلم"، قبل أن يتم تغيير اسمه في عام 1978 إلى "أفيسان"، وهو الاسم الذي يطلقه الغرب على الطبيب والفيلسوف المسلم الشهير "ابن سينا".
كما بنت فرنسا، بالضاحية الباريسية "بوبينييه"، مقبرة إسلامية، في سنة 1937، وهي كلها إشارات من النظام الفرنسي تجاه الأهالي القادمين من شمال إفريقيا حول نيته في إدماجهم تدريجياً بالمجتمع الفرنسي مع الاحتفاظ بهويتهم الثقافية والدينية.
حزب الشعب الجزائري
وتزامن ذلك الاهتمام من فرنسا بالمهاجرين الجزائريين بتطور الوعي السياسي لديهم، مقارنة بمواطنيهم الذين بقوا في البلاد، فلا عجب إذاً أن يتم تأسيس أول حزب سياسي جزائري بفرنسا، ويتعلق الأمر بحزب "نجم شمال إفريقيا" الذي أسسه مصالي الحاج في عام 1926، رفقة مناضلين آخرين، كعبد القادر حاج علي وسي الجيلالي، وتم تعيين الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، رئيساً شرفياً للحزب، وهو الذي كان منفياً من الجزائر إلى فرنسا.
ونجح حزب شمال إفريقيا في تجنيد المنخرطين وسط العمال الجزائريين من خلال التجمعات بالمقاهي والمطاعم والمنشورات والملصقات، ووصل عدد الناشطين به في ظرف قصير إلى 3600 مناضل، وكان ينادي الحزب باستقلال الجزائر وكل بلدان المغرب العربي عن فرنسا، وقد تم حله من طرف الحكومة الفرنسية يوم 26 يناير/كانون الثاني 1937، لكنه عاد يوم 11 مارس/آذار من العام نفسه، تحت تسمية جديدة وهي "حزب الشعب الجزائري"، والذي تم منعه من النشاط أيضاً يوم 26 سبتمبر/أيلول 1939.
وتوقفت الهجرة الجزائرية إلى فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، ثم عادت بعدها، كما أنها لم تتوقف خلال السنوات الثمانية من حرب التحرير؛ بحيث ارتفع عدد الجزائريين بفرنسا من 211 ألفاً في 1954 إلى 350 ألفاً في 1962.
هجرة جماعية نحو البلد العدو خلال حرب التحرير
وبعدما كان الأمر مقتصراً على الشباب فقط، فإن الهجرة الجزائرية إلى فرنسا خلال حرب التحرير باتت تتم على شكل عائلات؛ إذ بلغ عددها بحسب إحصائيات رسمية، 7 آلاف عائلة في 1954 و30 ألفاً في 1962.
وقد يبدو الأمر غريباً في هجرة جماعية نحو بلد العدو، ولكن ظروف العيش كانت أرحم في فرنسا من تلك التي كانت عليها في الجزائر المستعمرة، بحيث كان العساكر الفرنسيون يمارسون أبشع أنواع الظلم على الشعب الجزائري، ويقومون بتدمير قرى بأكملها انتقاماً من خسائرهم على أيدي المجاهدين.
ومن غرائب الصدف أيضاً أن تتحول فرنسا بسبب تلك الهجرة الجماعية الكبيرة إلى مكان حرب بينها وبين الجزائريين المطالبين بالاستقلال، بحيث نجحت جبهة التحرير الوطنية الجزائرية في التغلغل وسط الجالية، وأسست في عام 1956، ما يسمى بـ"فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني" التي، إضافة لجمع التبرعات لصالح الثورة بالجزائر، فإنّها نفذت بداية من عام 1958 مئات العمليات القتالية ضد المصالح الاقتصادية الفرنسية ورجال الأمن، وحتى ضد الجزائريين المتعاملين مع الاستعمار والذين يُسمون بـ"الحراكيين".
وقصد مواجهة الفيدرالية، قامت الحكومة الفرنسية، في مارس/آذار 1958 بتعيين النازي السابق موريس بابون رئيساً لشرطة باريس، والذي أصدر أوامر باعتقال المئات من الجزائريين المشكوك فيهم، كما ضيق من تحركاتهم، وفرض حظر التجوال عليهم ليلاً دون غيرهم من المهاجرين القادمين من بلدانٍ أخرى.
وقد بلغت ذروة قمعه للمهاجرين الجزائريين، ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، لمّا قام حوالي 22 ألف مهاجر جزائري بمظاهرة في باريس، دعت إليها فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا، للتنديد بحظر التجوال الليلي، بحيث تسببت الأوامر المتطرفة لموريس بابون في مذبحة، راح ضحيتها ما بين 300 إلى 400 شهيد بحسب الرواية الجزائرية، و40 قتيلاً بحسب الرواية الفرنسية، والذين مات معظمهم غرقاً بنهر السين، كما تم توقيف 11538 متظاهراً.
6 ملايين مهاجر جزائري بفرنسا
وعند الإعلان الرسمي لاستقلال الجزائر يوم 5 يوليو/تموز 1962، خرج عشرات الآلاف من الجزائريين للاحتفال بمختلف المدن الفرنسية، رافعين الأعلام الجزائرية، ولكن معظمهم بقوا في فرنسا ولم يعودوا إلى وطنهم الأم، أو عادوا لرؤية بلدهم حرة مستقلة، ثم رجعوا إلى فرنسا حيث استقروا بشكل نهائي، ثم التحق بهم آخرون.
وبحكم أنّ الحكومة الفرنسية، في السنوات الأخيرة، تمنع إحصاء سكانها على أساس عرقي، فإنّه لا توجد أرقام رسمية حول العدد الدقيق لعدد المهاجرين الجزائريين بفرنسا في الوقت الحالي، ولو أنّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد قدر عددهم في حوار لقناة تلفزيونية فرنسية في سنة 2020 بـ6 ملايين شخص.
رياضيون صنعوا مجد فرنسا لم يتنكروا لأصلهم الجزائري
وكان يقصد الرئيس تبون من ذلك العدد، كل جزائري هاجر من بلده أو ولد بفرنسا من أصل جزائري، أي حتى الذين يملكون الجنسية المزدوجة الجزائرية والفرنسية.
وعانت الكثير من العائلات الجزائرية من العيش في المهجر، وخاصة في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بسبب سكنها بمنازل من القصدير على غرار الحي الشهير بـ"لافولي" أي الجنون باللغة الفرنسية، بضاحية "نانتير"الباريسية، قبل أن يتم تهديمه في عام 1971، كما عانى أبناؤها أيضاً من العنصرية بالمدرسة، بحيث، وإضافة لتعرضهم للتنمر من زملائهم، فقد كان بعض مدراء المدارس يتعمدون إنهاء المسار الدراسي للجزائريين وتوجيههم للتكوين المهني، على الرغم من ذكائهم وتفوقهم على الكثير من أبناء الفرنسيين.
وقد شكلت تلك العنصرية تحدياً للمهاجر الجزائري في فرض وجوده داخل المجتمع الفرنسي، فكانت الرياضة إحدى وسائل ذلك التحدي، وبوابة نحو النجاح وفرض الاحترام، ونخص بالذكر لاعب الجودو، جمال بوراس، الذي منح فرنسا ميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية بأطلنطا 1996، ولاعبي كرة القدم زين الدين زيدان، الذي قاد المنتخب الفرنسي للتتويج بلقب كأس العالم في 1998، وكريم بنزيما، أحد لاعبي منتخب فرنسا في العشرية الماضية.
ولم يتنكر هؤلاء الرياضيون أبداً لأصولهم، فبنزيما مثلاً، صرح جهراً للصحافة الفرنسية أنه لا يحفظ النشيد الفرنسي لأنه جزائري، وقد اختار اللعب لمنتخب فرنسا لأسباب رياضية فقط، أما بوراس فصرح عقب لقبه الأولمبي أنه "يهدي الميدالية لكل المسلمين الذين يعانون في العالم"، كما أنّ زيدان أسس جمعية خيرية يديرها والده إسماعيل، قامت بعدة أعمال نفعية بالجزائر، كبناء مستشفى ومسجد وتبرعات ضخمة خلال الأزمة الصحية لوباء كورونا.
وبالطبع برع مهاجرون آخرون وفضَّلوا تمثيل بلدهم الأصلي الجزائر بدل منتخب مولدهم فرنسا، على غرار لاعبي منتخب كرة القدم السابقين والحاليين، مصطفى دحلب وكريم زياني وعنتر يحيى وسفيان فيغولي ورياض محرز وإسماعيل بن ناصر… والقائمة طويلة جداً.
مهاجرون برعوا في الطب والبحوث العلمية
ونجح مهاجرون جزائريون آخرون في مجالات عدة، وخاصة في الطب، على غرار البروفيسور كمال صنهاجي، الباحث المتخصص في العلاج الجيني للسيدا، والذي قلده الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، في سنة 2006، وسام جوقة الشرف الوطنية، وهو أعلى وسام تكريمي في فرنسا.
ويشغل البروفيسور صنهاجي منذ يونيو/حزيران 2020، منصب رئيس الوكالة الوطنية للأمن الصحي بالجزائر، وذلك في انتظار أن تستفيد البلاد أيضاً من كفاءة خبير علم الفيروسات، يحيى عبد المؤمن مكي، رئيس قسم الفيروسات التنفسية والسرطانية بمستشفى ليون الجامعي.
وفي الختام، وكما يقول المثل الشعبي بالجزائر: "الغربة تعطي لك وتنحي لك"، بمعنى "تمنحك إيجابيات كرغد العيش مثلاً، وتنزع منك الأهل وأيضاً جزءاً من هويتك؛ إذ يجب الاعتراف بأنّ الكثير من الجزائريين حتى ولو حافظوا على مبادئ دينهم؛ فإنهم فقدوا لغتهم الأصلية، كما أنّ البعض منهم انصهر داخل المجتمع الفرنسي ولم يعد يحتفظ من الجزائر سوى بالاسم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.