شهدت إسطنبول، يوم الجمعة 24 يونيو/حزيران 2022م، أكبر جنازة في سنواتها المتأخرة، أعادت إلى أذهان الناس جنازة البروفيسور نجم الدين أربكان عام 2011. وأثارت الجنازة حفيظة المعارضين التغريبيين واستفزهم تجمع أبناء طريقة جماعة محمود أفندي بمظاهرهم الإسلامية، وسدهم للطرقات بمنطقة الفاتح، بحشودهم الكثيفة، رغم غياب النساء عن الجنازة، بحسب وصية الشيخ قبل موته، تجنيباً لهن للاختلاط والزحام مع الرجال، واكتفائهن بقراءة القرآن على روحه في البيوت والمدارس. كما شارك بالجنازة كبار رجال الدولة، يتقدمهم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
وبين يدي هذه الوقائع حريٌّ بنا التأمل والقراءة في تجربة هذا الشيخ الإصلاحي المتصوف، وبحث عوامل نجاح وسرعة انتشار جماعته مجتمعياً، والتي تقدر بالملايين من الأتباع، حيث أظهرت الجنازة وجهاً إسلامياً للمجتمع التركي ظن الناس غيابه وانقراضه، وقد جدد الشيخ لنا ذكرى سلفه من قادة التصوف الجهادي والحركي الإصلاحي السني، كأمثال الدعوة السنوسية والشيخ عمر المختار بليبيا، والشيخ الأمير عبد القادر الجزائري، وحركات التصوف المقاومة للاحتلال الفرنسي بشيوخها من قادة المقاومة الشعبية بالجزائر، والشيخ شامل الداغستاني في مواجهة الروس في الشيشان، وقبلهم شيوخ التصوف السني على مدار التاريخ حماة الدعوة والفكرة والتربية.
الشيخ محمود أفندي (طرابزون 1927/إسطنبول 2022م) من شيوخ الطريقة النقشبندية التي تمتد أسانيدها إلى الصحابة الكرام أبي بكر الصديق وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، ويقع الشيخ محمود في الطبقة السادسة والثلاثين عن شيخه علي حيدر أفندي (1880/ 1960م) أحد شيوخ وعلماء الدولة العثمانية، وهو رئيس لجنة التأليف بالمشيخة الإسلامية والمدرس بمدارس السلطان محمد الفاتح، الذي أجازه وقبل بيعته وفق التقليد السلوكي المعروف عند أهل التصوف بـ"اليد الصحيحة شيخاً عن شيخ"، وتولى الشيخ محمود مهمة تربية الجماعة بعد وفاة شيخه عام 1960.
الشيخ محمود أفندي حفظ القرآن وهو ابن 6 سنين، وتخرج بالإجازة العلمية مبكراً، وتنقل بين المدن طلباً للعلم، واشتغل بالإمامة والخطابة والوعظ وتدريس الناس في البيوت والمساجد حتى في أوقات الشدة، حيث كان يدرِّس الناس خفية في المجالس الخاصة، وعرف عنه الاستقامة وحسن التدين من مراحل عمره المبكرة.
رغم انشغال الشيخ بتربية الرجال فقد ترك بعض المصنفات، منها: تفسير مختصر لمعاني القرآن، وشرح الرسالة القدسية، وكتاب "المواعظ" في 8 مجلدات، جمع فيها حصاد دروسه، وله كتب ورسائل توجيهية مختلفة، منها "إرشاد المريدين"، و"الأوراد اليومية"، و"فضائل القرآن وآداب التلاوة"، كما يعكف العلماء من طلبته على تفسير كبير للقرآن بإشرافه، على أن يكون في 36 مجلداً.
بقي الشيخ محمود أفندي في آخر سنواته مع تقدم العمر يستقبل الزوار من علماء الأمة ومريديه في لقاءات جماهيرية يطل عليهم فيها برمزيته المعنوية والعلمية التربوية، رغم أن تقدم العمر صار مانعاً له من التدريس والحديث، فتفرغ للذكر والتسبيح، كما اعتمر الشيخ مع 50 ألفاً من طلابه وأتباعه عام 2011م في حالة جماهيرية ملأت الحرم المكي في مشهد فريد.
وبالنظر لمنهج الشيخ الإصلاحي يمكن لنا استخلاص هذه المعالم الثمانية في تجربته الدعوية:
1. الاهتمام بالتعليم
سعى الشيخ لبناء المدارس الشرعية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، فكانت له رؤية تتمثل في أن وجود المدرسة في القرية أو الحارة رسالة تربوية غير مباشرة للمجتمع، ووقاية معنوية لسكانها، ومعروف أن الجماعة تَصرِف بناتها عن الدراسة في المدارس الحكومية بسبب البيئة التعليمية فيها والاختلاط والمستوى التربوي العام حسب تقديرهم، إضافة للمناهج المدرسية التي لا تتوافق مع رؤية الشيخ وجماعته، ويعتبرها امتداداً لمراحل سياسية سابقة صادمة لقيم الشعب وهويته، لكنه اهتم بتعليم البنات، وأسس لهن البدائل والمدارس الخاصة بجماعته والبرامج التعليمية المناسبة لذلك، فكان يقول الشيخ لأتباعه: "أمري إليكم أن تبنوا في كل حارة مدرسة شرعية للبنين ومدرسة شرعية للبنات".
2. الجمع بين علوم الشريعة وعلوم الحقيقة
يجمع منهج الشيخ محمود أفندي لمنتسبيه بين تعليم الشريعة وعلومها مع تربيتهم على قواعد التصوف وتهذيب النفوس، لأن العلم والسلوك توأمان لا ينفصلان، والشريعة عين والتزكية طريقها، فأمر بفتح المدارس، وقال في إحدى مواعظه: "اتخذنا قراراً بأن يطلب العلم كل من لم يبلغ الـ90 من عمره"، وكان يوصي طلابه بقوله: "لو بقي من عمري 3 أنفاس لقلت لكم: اقرؤوا، اقرؤوا، اقرؤوا".
وكان منهجه الذي وضعه لمدارسه تدريجياً، يبدأ أولاً بتعليم العربية عبر قواعد الصرف والنحو وعلم البلاغة، وشرح "العقائد النسفية" في علوم العقيدة، وتدريس "ملتقى الأبحر" في الفقه الحنفي، وقراءة شرحه "مجمع الأنهر"، ثم دراسة "كتاب الهداية لعلي المارغيناني"؛ لأن فيه مجموع فروع مذهب الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله، وكان هو سابقاً يدرس بشكل متكرر "تفسير النسفي"، ودَرَسَ "مرآة الأصول" في علم أصول الفقه لشيخ الإسلام الملا خسرو أفندي أستاذ محمد الفاتح، رحمهم الله تعالى.
بالمقابل كان الشيخ لا يستحسن الانشغال بالعلم مع التقصير بالعبادة، فكان يوصى جماعته بالأوراد والأذكار، وألّا يشغلهم طلب العلم عن العبادة، وأن الأهم هو الجمع بينهما.
فكانت طريقة الشيخ سنية على عقائد أهل السنة رافضة للبدعة، وكان وجماعته على مذهب أبي حنيفة في الفقه، ومذهب الإمام أبي منصور الماتريدي في العقيدة.
3. شدة الالتزام بتطبيق السنة النبوية
مع أن الشيخ محمود أفندي كان من أهل التصوف على طريقة النقشبندية، فإنه لم يكن ليسمح أن تخرج طريقته عن منهج السنة، وكان يقول: "ينبغي ألا يُعتَد ولا يُغتَر بالمنامات والمكاشفات والكرامات، وخوارق العادات". ويحذر من الاستدراج في هذا الباب، وأن المدار والمرجع هو الشريعة أولاً وأخيراً، وأن غاية الطريقة الاستقامة على جادة الشريعة، فلا يحصل هذا دون الالتزام بالسنة النبوية، لهذا نجد أتباعه يلتزمون باللحية سنةً نبويةً دائمة، ويحثهم على إحياء السنن النبوية المتروكة، وكان الشيخ في حاله حسب معاصريه لا يقصر بالنوافل والرواتب، ولا يترك الضحى والأوراد، ولا يترك صيام الاثنين والخميس واعتكاف العشر الأواخر من رمضان.
وكان يقول الشيخ المحدث عبد الفتاح أبو غدة عن أبناء جماعته: "ما رأيت جماعة وأتباعاً متبعين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كحال الشيخ محمود أفندي وجماعته".
وقال الشيخ القرضاوي عنه: إنه "عالم حنفي صوفي، لكنه ليس من الصوفية المبتدعة الذين يشيعون الخزعبلات وينشرون الضلالات، بل هو ملتزم بالكتاب والسنة".
4. مأسسة الدعوة والاهتمام بالعمل الخيري
لم يكن عمل الشيخ محمود أفندي مقتصراً على بناء الأفراد والجماعات فقط أو نشر الأوراد والتسبيحات، بل عمل على بناء العمران الخادم للإنسان، فأسس الأوقاف والمدارس والتكايا، ثم أسس الجمعيات الخيرية والإنسانية، وبهذا ينمي المال الخيري ويُثمره في مشاريع جادة تخدم الفكر والدعوة، كما يحافظ على مال أبناء الجماعة في مشاريع ومؤسسات الجماعة الموجهة لعموم المجتمع، لكن وفق رؤيته وهدفه ومقاصده.
5. عالمية المشاريع والدعوة
لم تقتصر المشاريع الدعوية والخيرية لجماعة محمود أفندي على الجغرافيا التركية فحسب، فقد أسست مئات المدارس الدينية في أنحاء العالم، وتعلم عبرها عشرات الآلاف من الطلاب قضايا دينهم، كما تنفذ مؤسساته الكثير من المشاريع الإغاثية في إفريقيا ودول آسيا، وهي قسم فاعل من المؤسسات الإنسانية التي تمثل القوة الناعمة للسياسة الخارجية التركية.
كما كان للشيخ أسفار ورحلات علمية لمختلف البلاد لنشر فكرته ومجالسة العلماء ومحاورتهم، فزار دمشق والبلقان وإنجلترا وبخارى وسمرقند وغيرها من البلاد بغرض التبليغ والإرشاد، فكان يعتبر أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبر الجغرافيا وتتجاوز الحدود واللغات والثقافات.
6. عدم ممارسة السياسة مع دعم السياسة العادلة
كان الشيخ يقول عن نفسه: "لا أفهم في شؤون السياسية، بل مهمتي النظر في أحكام الشريعة فأبيّنها بصراحة"، ولهذا لم ينخرط الشيخ وأتباعه في الممارسة السياسية المباشرة بشكل تنفيذي أو ترشيحات انتخابية أو تولٍّ للمناصب، خلاف بعض الجماعات الصوفية الأخرى، مثل جماعة فتح الله كولن التي تورطت في الانقلاب على البلاد بعدما توغل أبناؤها في مفاصل الدولة، وكانت تؤمن بالتغيير من الداخل بشكل حاد وجذري راديكالي.
لكن الشيخ محمود أفندي لم يتبنَّ موقفاً سلبياً من قضايا الحكم، رغم قناعته بالتخصصية الدعوية في تعليم الناس وتربيتهم وفق رؤية "الهم الواحد لا تَشتُّت الهموم"، بل كان يجتمع مع نواب البرلمان ورجال الدولة كلما وجد سبيلاً لذلك ضمن مجالس النصح والإرشاد، فاجتمع مع جودة صوناي الذي كان رئيس الجمهورية التركية عام 1973 ونصحه، كما جالس الرئيس توركوت أوزال رئيس الجمهورية الثامن، حتى تأخر الرئيس عن طائرته فقال للشيخ: "إننا نجد بدل الطائرة طائرات، ولكن لا نجد بديلاً عنكم".
وكانت له مجالسات ولقاءات مع البروفيسور نجم الدين أربكان، الذي تولى رئاسة الوزراء وانقلب عليه الجيش وحل أحزابه الإسلامية المختلفة، وقد كان أربكان نقشبنديّاً سلوكاً وتربية وليس منتسباً لجماعة معينة، بل مؤسساً لحركة وتوجه "فكر الأمة – Millî Görüş"، وكان يقول عنه الشيخ محمود أفندي: "من أراد رؤية ولي من أولياء الله دون لحية فلينظر لنجم الدين أربكان".
أما في مرحلة الرئيس رجب طيب أردوغان فقد فُتِح فضاء الحرية للجماعة كي تمارس نشاطاتها وتنمي مؤسساتها وتجهر بمشروعها، وأتيح لنساء الجماعة حرية الحجاب بعد رفع الحظر والمنع، وكان رئيس الجمهورية كثير التردد إليه وطلب النصح والدعاء منه، وهي عادته في احترام العلماء وتبجيل أهل العلم بعموم الأمة حتى من خارج تركيا، وقد شارك الرئيس رجب طيب أردوغان في جنازة الشيخ محمود أفندي وحمل النعش.
بدوره كان الشيخ محمود أفندي يدعم أردوغان انتخابيّاً ويوجه أبناء جماعته للتصويت له، كما كان له موقف مؤيد للحكومة والرئيس في انقلاب 15 يوليو/تموز 2016م فنزل أتباع الجماعة برجالهم ونسائهم للشوارع طيلة أيام التصدي للانقلاب، وقدمت الجماعة الشهداء على غرار باقي طبقات الشعب المختلفة.
7. تحدي مشاريع التغريب عبر الاعتزاز بالمظهر
لا تخطئ عين الملاحظ الزائر لمنطقة تمركز أبناء الجماعة في الفاتح بإسطنبول أبناءَ الجماعة المتمسكين بالمظهر المتميز لهم، (العمامة والجبة للرجال، والحجاب والشرشف الأسود المغطي لقسم من الوجه للنساء)، وكانت هذه إحدى الوسائل في تحدي مشاريع التغريب التي جاءت في عهد الجمهورية بعد مرحلة الخلافة العثمانية، حيث كان هذا التمسك الشكلي صورة من صور المقاومة المجتمعية لهذه المشاريع، واعتبر الشيخ أن التشبه بالكفار في المظهر يؤثر على الداخل وعلى حياة المسلم، فدعا جماعته للتمايز، وهذا الأسلوب ورثه عن شيخه علي حيدر، الذي كان مع زملائه في مقاومة مشروع حرب المظاهر الإسلامية تحت دعوى علمنة الدولة، ومن هؤلاء الشيخ محمد عاطف الإسكيليبي الذي علق على حبل مشنقة الإعدام بالساحة العمومية سنة 1926م بتهمة مخالفة قانون الالتزام بلبس القبعة الغربية، ومعارضة علمانية تركيا لكتابته رسالة بعنوان "تحريم لبس القبعة وتقليد الغرب في لباسهم"، وتحديه لمشروع التغريب المتصاعد، والقضية قطعاً كانت عند الإسكيليبي أكبر من قبعة أو عمامة، بل كانت موقفاً ورسالة، فأخذ بالعزيمة وعدم الترخص ليبقي صوت المعارضة قوياً.
لقد كان رجال الجمهورية الجديدة بعد إلغاء الخلافة يسرعون في مشاريع تعديل الهوية وإلحاقها بالغرب، فجاءت حملات مختلفة الشدة على مظاهر التدين والمدارس الشرعية والزوايا ورجال العلم والدعاة واللغة العربية، ومنع تعليم القرآن وجعل الأذان بالتركية، وحورب الحجاب والطربوش للرجال وسائر المظاهر الإسلامية في مرافق الدولة، ودفع الثمن من واجه أو حاول التصدي لهذه الحملة القوية وما أنتجته من مشاريع، فكانت الانقلابات العسكرية على حكومات البروفيسور أربكان سنة 1995م وحل أحزابه، وأُعدم بعض الإصلاحيين مثل الرئيس المنتخب عدنان مندريس سنة 1960، وشن الإعلام حملات السخرية والتسفيه للدعاة، وفي تلك المحنة بقيت الجماعة بشيخها ترابط في تعليم الناس أساسيات دينهم وتخريج الطلاب رغم أيام الشدة وظروفها، وهذا رباط معرفي دعوي كبير.
8. تحمل المحنة في سبيل الثبات على الفكرة
تعرض الشيخ للمحنة السياسية نتيجة مواقفه ومنهجه كغيره من رجال الدعوة والإصلاحيين وشيوخه، خاصة في المراحل السابقة لحكم الرئيس أردوغان، فتعرض لمحاولتي اغتيال، كما اغتيل صهره خضر علي مراد أوغلو سنة 1998 في مسجده، وهو من شيوخ الجماعة، بقصد تخويف الشيخ محمود أفندي وردع رفاقه، وحوكم بتهمة القتل لمفتي أوسكودار عام 1982م ثم تحققت براءته بعد سنتين من المتابعات القضائية، وتعرض لمحاولات النفي من الإدارة العسكرية الانقلابية.
وقد ورث الشيخ هذا المنهج في الثبات أمام المحنة من شيخه ومربيه على حيدر أفندي، الذي خدم السلطان عبد الحميد الثاني وسياسته الإصلاحية، وسجن في حياته 24 مرة، وحكم عليه بالإعدام 4 مرات نجاه الله منها.
لقد أفنى الشيخ محمود أفندي حياته في خدمة الدين، فكان شأنه الجد والجهاد، حتى سُئل متى تستريحون؟ فقال مشيراً للقبر: "ذاك محل الراحة، أما الآن فوقت خدمة الدين والعمل للآخرة".
وقد قال الشيخ المحدث محمد عوامة، يوم حفل تكريم الشيخ محمود أفندي عام 2010م بجائزة "الخدمة العالمية للإسلام"، المقدمة من هيئة علماء ديوبند بباكستان، بحضور 400 عالم من مختلف البلاد الإسلامية: "رحم الله الشيخ محمود أفندي، لقد ملأ هذه البلاد علماً".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.