ترسخت الخطوات في العديد من دول العالم خلال العقود الأخيرة لبناء مجتمع الحريات والعدالة الاجتماعية والاقتصادية؛ في وقت ترزح فيه غالبية الدول العربية تحت نظم مستبدة؛ ليسود مبدأ الفردية المطلقة في الحكم، والاستمرار في نهب المال العام على حساب لقمة عيش المجتمعات، وتالياً سيل الهجرة للطاقات البشرية إلى مناطق جاذبة وأكثر أمناً في العالم.
مخرجات النظم المستبدة
ثمة مخرجات سلبية للنظم الاستبدادية في الوطن العربي، تتجلى بحقائق ومعطيات على مستوى تدهور التنمية البشرية، فضلاً على بؤس المؤشرات الاقتصادية، وبالأرقام يتوزع الدخل القومي بشكل أكثر عدالة نسبياً في الدول المتطورة، في حين يستحوذ (20٪) من سكان الوطن العربي على (90٪) من الدخل القومي، الأمر الذي يجعل (80٪) من السكان تحت خط الفقر المدقع، ويضعف خياراتهم من صحة وتعليم ورفاه اجتماعي.
وللدلالة على سياسات النظم العربية الديكتاتورية الفاشلة، ارتفعت وتيرة معدلات البطالة بين النشيطين اقتصادياً خلال السنوات الأخيرة، لتصل إلى (11٪) كحد أدنى و(35٪) كحد أعلى في الدول العربية، في وقت وصلت فيه نسبة الأمية بين الإناث العربيات البالغات إلى (50٪)، كما تشير بحوث متخصصة إلى أن معدل الأمية بين البالغين في الدول العربية بقي في حدود (35٪) خلال الأعوام الأخيرة. وكان مؤشر الأمية بين الشباب العربي هو الأخطر مقارنة ببعض الدول النامية في أمريكا اللاتينية، حيث وصل إلى نحو (20٪).
ومن الأزمات التي تعاني منها المجتمعات العربية -بسبب السياسات الفاشلة للنظم الرسمية العربية- عدم الاستفادة بالشكل المطلوب من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وثورة المعلومات، وتُعزَى الفجوات الكبيرة في هذا المجال بين الدول العربية والدول المتطورة في دول العالم إلى ارتفاع معدلات الأمية بين الشباب العربي، والتي كان مردها -كما أسلفنا- سياسات النظم العربية الرسمية؛ حيث لم تخصص الموازنات الكافية للارتقاء بمستويات التعليم والبحث العلمي.
واللافت أيضاً أن المؤشرات تزداد سوءاً عند الإشارة إلى ضعف المشاركة السياسية الشعبية في غالبية الدول العربية، فضلاً عن ضعف مشاركة المرأة العربية في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، هذا في وقت أصبحت فيه مشاركة المرأة من المعايير الرئيسية لمستوى التطوّر والتنمية البشرية في دول العالم.
إذاً المسؤول عن تدني مؤشرات التنمية البشرية في غالبية الدول العربية هي النظم السياسية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة. ويمكن الجزم أن الاستمرار في حالة النظم السياسية العربية المترهلة والفاشلة سيؤدي إلى تراجع في المؤشرات كافة، والدالة أساساً على تطوّر المجتمعات، إن على المستوى الداخلي أو الخارجي، ويمنع العرب من اللحاق بركب الحضارة، وتبعاً لذلك فإنه من المؤكد استمرار ثورات الربيع وفق تعبيرات تبتكرها الشعوب، وخاصة شرائح الشباب والطلاب منها، للمطالبة ببناء مؤسسات ومنظمات اجتماعية حقيقية، فضلاً عن المطالبة بالتغيير الشامل وترسيخ مبدأ الديمقراطية وسيادة القانون عوضاً عن مبدأ الفردية في الحكم.
وبطبيعة الحال، فإن انتشار وترسيخ المبدأ المذكور سيهيِّئ الظروف السانحة لعودة رأس المال المالي العربي المهاجر من جهة والمقدر بمليارات الدولارات، وكذلك ستكون الطريق ممهدة لعودة الأدمغة العربية المهاجرة إلى أوطانها؛ حيث تشير دراسات عديدة إلى وجود خمسة ملايين من العلماء والأكاديميين والباحثين العرب في أوروبا وأمريكا.
وبعودة رأس المال والقوى البشرية، خاصة تلك التي هجرت خلال السنوات الأخيرة إلى القارة العجوز وكندا، إلى الدول العربية وتوطينها في الوطن الأم، يمكن التأكيد عندئذ أن قدرات وطنية حقيقية كامنة ستدفع في اتجاه تعزيز وتنمية قدرات الوطن والمواطن العربي، وتالياً تحسين شروط الأداء الاقتصادي لكافة القطاعات الاقتصادية في إطار الاقتصاديات الوطنية، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالٍ من شأنه تعزيز الخيارات للدول والشعوب العربية على حد سواء، وقد تدفع تلك التغيرات إلى أن يتبوَّأ الوطن العربي مكانةً هامة، ويصبح رقماً ليس هامشياً في إطار العلاقات الدولية، التي لا شأن للضعيف اقتصادياً ومعرفياً فيها في عالم الأقوياء.
تفاقم ظواهر خطيرة
لقد أدت عملية الإفساد المالي والإداري إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فضلاً عن تفشي ظواهر خطيرة في غالبية الدول العربية، وفي مقدمة تلك الظواهر ظاهرة القطط السمان حول النظم السياسية الحاكمة، وتلك الشريحة لا يهمها إلا تراكم رأس المال بعيداً عن القيام باستثمارات تعود بمنفعة مباشرة على الأوطان والشعوب، وهذا بدوره أدى إلى ارتفاع وتيرة مؤشرات البؤس في غالبية الدول العربية، فتفاقمت معدلات البطالة، وازدادت قيمة الديون الخارجية، وارتفعت معدلات الفقر والفقر المدقع إلى معدلات فلكية رغم وجود المصادر الطبيعية الوطنية الكبيرة.. وهذا بدوره سيكون من العوامل الهامة لاستمرار ثورات الربيع العربي التي نادت وتنادي بالتحول الديمقراطي.
انعكست سياسات النظم السياسية العربية على كافة مناحي الحياة، ومن بينها الحياة السياسية والاقتصادية، وتجلى التعبير عن ذلك من خلال سوء توزيع الدخل القومي للدول العربية؛ حيث تتحكم أقلية من السكان التي تعيش في كنف النظام السياسي القائم بالقسم الأكبر من الدخل القومي لهذه الدولة أو تلك، في حين بقيت أكثرية المجتمعات العربية عرضة لتفاقم ظاهرة الفقر والبطالة والجهل.
الربيع العربي القادم
يكمن مستقبل الشعوب العربية الواعد باستثمار المصادر الطبيعية والبشرية التي يزخر بها الوطن العربي لمصلحة المواطن العربي في المقام الأول؛ حيث يستحوذ على نحو (60٪) من احتياطي النفط العالمي، ناهيك عن قوة بشرية كبيرة يصل مجموعها إلى (400) مليون عربي خلال العام الحالي 2022، ومن بينها نحو (100) مليون من فئة الشباب الفاعلة في ميادين العلم والمعرفة، وهي الفئة الأقدر على حماية منجزات شعوبها وتطلعاتها في المستقبل المنظور، ورغم الإخفاقات التي واجهت ثورات الربيع العربي، فثمة عوامل كامنة -أشرنا إليها- قد تدفع الشباب العربي وبقوة إلى ميادين التحرير والتغيير معلنين انطلاقة ثورات الربيع العربي وبوسائل أكثر دراية وعلمية؛ لتتحقق أهداف الشعوب العربية، المتمثلة بالعدالة والحرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.