"مدينة إسطنبول تحلق بين 3 مدن سياحية هي الأولى عالمياً"، تحت هذا العنوان نشر عربي بوست خبراً في 11 يونيو/حزيران الحالي 2022، عن كيف أصبحت مدينة إسطنبول في ريادة المدن الجاذبة للسياحة، ما يساعد على دخول أموال طائلة وبالعملة الصعبة في خزينة الدولة التركية، وبالتالي يؤدي إلى إنعاش الاقتصاد وتحقيق الرفاهية للشعب التركي.
وفي هذا الصدد، كان وزير الثقافة والسياحة التركي قد صرح بأن عدد السياح القادمين إلى تركيا خلال نصف العام الجاري، يصل إلى 19 مليون سائح، وتركيا تخطط لوصول عائد السياحة إلى 34.5 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022.
صناعة السياحة بصفتها أهم مصدر للعملة الصعبة
السياحة مصدر هام من مصادر العملة الصعبة والتي تعمل على إنعاش اقتصاديات الدول وتؤدي إلى زيادة الدخل القومي في البلاد، والذي ينعكس بالتالي على تقليص العجز في ميزان المدفوعات وتسديد الديون ليصب جميعاً في البناء والتنمية وتطور الدول وتحقيق الرفاهية للمواطن.
ولذلك تحرص الدول على تشجيع صناعة السياحة عن طريق تذليل الصعاب وتوظيف الإمكانيات والعناصر السياحية المتاحة لديها توظيفا صحيحا، والأهم توفير أجواء آمنة مستقرة في البلاد، أجواء خالية من العشوائيات وعدم وجود أي شكل من أشكال العنف والبلطجة فيها، لينشط سوق السياحة وتصبح الدولة منافساً قوياً في هذا المجال، ليعود كل ذلك بالخير على الوطن والمواطن، وكما فعلت وتفعل تركيا في هذا المضمار ونجحت في ذلك نجاحاً باهراً.
مصر وتحليقها خارج سرب المنافسة الدولية في التسويق السياحي
كل ذلك يحدث في دول أقل من مصر سياحياً بكثير، لكن في مصر بلد الحضارة والآثار، فعل النظام عكس ذلك كله، وكأنه لا يعنيه اقتصاد دولة ولا بناء أمة ولا يوجد لديه أي نية في تحسين الظروف الحياتية للمواطن والتي تزيد صعوبة ويزداد ضغط طوق الفقر والبؤس وفقدان الأمل في المستقبل حول عنقه بشدة حتى أوشكت أن تفضي به إلى الموت، فزادت نسب الانتحار وزادت وتيرة القتل والعنف والفساد والبلطجة في المجتمع، بجانب أحكام الإعدامات بالجملة من قبل القضاء المسيَّس وانتشار ظاهرة الاختفاء القسري والتي تتبناها الأجهزة الأمنية وبعشوائية شديدة، ما تسبب في عزوف الكثير من السياح في قضاء عطلاتهم في مصر.
ما أفقد مصر مصدراً كبيراً من مصادر العملة الصعبة وحرم خزينة الدولة من أهم الموارد، في الوقت الذي برعوا فيه في التفريط في أمن مصر القومي من جُزر ومياه وأصول الدولة، وساهموا في تشجيع السياحة وزيادتها في الإمارات وإسرائيل، حتى أنهم فرطوا في الكثير من آثار مصر لتفتح بها المتاحف لتشجيع السياح على ارتياد الإمارات على حساب مصر.
السياحة في سيناء
بينما نعاني من ركود السياحة في مصر، بسبب عوامل عديدة، ومنها ضعف الترويج المناسب لها، نجد سياحة سيناء صعبة ومجهدة على المواطن، والأجانب، لكنها تنشط نشاطاً غير عادي أمام السياح القادمين من إسرائيل إلى أرض سيناء، وعلى حساب صناعة السياحة المصرية، وذلك بمساعدة النظام المصري.
فقد نشرت قناة دويتشه فيله الألمانية (Deutsche Welle) الناطقة بالعربية، في 23 يونيو الحالي تقريراً هاماً يوضح انتشار السياح القادمين من الشرق من الأراضي المحتلة عبر الحدود المصرية الإسرائيلية وبدون تأشيرة في سيناء.
كتبت القناة ذلك تحت عنوان "سيناء تستقطب السياح الإسرائيليين" قائلة إن عشرات الآلاف من السياح الإسرائيليين يجدون الراحة في منتجعات شبه جزيرة سيناء المصرية.
وهنا يحق لنا أن نتساءل:
ألهذا تم العمل بنشاط من أجل تفريغ سيناء من سكانها باستخدام أساليب القتل والعنف فيها وإرعاب السيناويين وتدمير منازلهم بحجة محاربة الإرهاب بجانب عمل نقاط تفتيش والتضييق على المصريين على طول خط قناة السويس لتصعيب دخولهم سيناء من الغرب ليحرموا بذلك أصحاب الأرض منها؟ فإنها لا تعمي الأبصار.
فبالرغم من وجود جميع العناصر المشجعة على السياحة في مصر مثل المياه، والشواطئ الممتدة على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وعلى شاطئ نهر النيل، والأجواء الجميلة والشمس خصوصاً في فصل الشتاء والخريف، والأهم "الآثار"، وتوفر الكثير من العوامل الجاذبة لزيارة مصر، ووجود العناصر المتنوعة المشجعة على السياحة، فإن هناك عزوفاً بنسبة كبيرة من السياح عن التوجه إلى مصر، ما يجعلها تفقد أموالاً طائلة وبالعملة الصعبة التي كانت ستدخل خزينة الدولة، وكان يمكنها أن تنعش الاقتصاد وتساعد على التنمية وتفتح أبواباً جديدة لفرص العمل ما يحد من نسبة البطالة المقنعة والتي يعاني منها الشعب المصري ويساعد على إخراج مصر من الأزمات الرهيبة المدمرة والتي تعاني منها الدولة، ومنها الديون المتراكمة والتي تدفع بمصر إلى الإفلاس.
لماذا انحدرت السياحة في مصر لهذا الحد؟
يرجع ذلك لوجود نظام حاكم عسكري ممتد منذ سبعة عقود، سيطر على البلاد وتحكم في ثرواته ومقدراته وبعيد عن تطلعات الشعب ومصالح الدولة المصرية منذ عام 1952 بالتحديد، نظام سيطر على الدولة المصرية بقوة السلاح. نظام من أهم أولوياته الانفراد بالحكم فقط وضمان السلطة الأبدية لهم كقيادات عسكرية وذلك بإحكام القبضة الأمنية على البلاد واستخدام البطش والإجراءات التعسفية وممارسة التسلط والاستبداد، كل ذلك من أجل النفوذ والمال، لا يعنيهم اقتصاد دولة أو مصير شعب أو النهوض بأمة.
نظام لا يمتلك القدرات والكفاءات لتوظيف موارد الدولة التوظيف الصحيح، ولا يقدرون ثروات مصر وما تمتلكه من كنوز مثل آثار تاريخية لا تقدر بثمن والتي تم نهب وسرقة وتبديد الكثير منها في عصرهم وبيعها في الخارج كما يسعون على قدم وساق في بيع أصول الدولة المصرية والتفريط في أمنها القومي، إنها جرائم ترتكب في حق مصر والمصريين وتحت تهديد وبطش السلاح، والتفريط في ثروات أخرى مهمة في مصر، مثل حقول الغاز المصرية ومناجم الذهب ومعادن ومواد خام.
لماذا عزف السياح عن المجيء؟
إنه نظام يفتقد إلى الأسلوب الإداري لتوظيف موارد الدولة وثرواتها التوظيف الصحيح، وليس لديه أي فكر عما تمتلكه مصر من عناصر كثيرة جاذبة للسياحة، ولا يوجد لديهم أي نية لتوفير أجواء آمنة خالية من العنف والبلطجة، أجواء يحفها الأمن والأمان والاستقرار لترغيب السياح لزيارة مصر، خصوصاً أن القبضة الأمنية المفرطة والتي يستخدمونها كمنهج حياتي لهم، وأسلوبهم المتبع من أحكام إعدام بالجملة والاعتقالات التعسفية ووسائل التعذيب التي يعلمها الجميع، ولنا فيما حدث لريجيني الإيطالي مثال على ذلك. كل ذلك أدى إلى عزوف الكثير من السياح عن ارتياد مصر.
وهناك الأخطر، وهي المناظر المؤلمة من الفقر والبؤس وانتشار العشوائيات والإهمال وأكوام القمامة المنتشرة، والتي تشعرهم بالصدمة والألم النفسي خصوصاً عندما يتحركون خارجين من المنتجعات السياحية الراقية متجهين لزيارة مناطق سياحية أخرى مارين بالمدن والقرى والأحياء المصرية وكأنهم انتقلوا من دولة غنية إلى دولة فقيرة جداً يشعر سكانها بالبؤس الشديد وفي مناظر مؤلمة وغير آدمية وغير مقبولة، بجانب الفساد الاجتماعي الذي يؤدي لتعرضهم لمضايقات جمة من المتسولين والبائعين، وتحرشات جنسية مزعجة ومرفوضة.
وحقيقةً ما أكتبه هنا ليس فيه أي نوع من المبالغة أو التجني على أحد، ولكنها حقائق دامغة يعلمها كل بصير وواقع مرير مرعب نعيشه، ووضع مزري وغاية في السوء تمر به الدولة المصرية وكأنها توشك أن تحتضر، ومعلومات وآراء تم الإلمام بها والحصول عليها ليس من خلال الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل عن طريق البحث الميداني بوجودي وإقامتي في ألمانيا واحتكاكي المباشر بهم وتعاملي معهم، معلومات حصلت عليها من خلال تداول الحديث مع زملائي الألمان في العمل أو في المجتمع الذي أعيش فيه هنا في ألمانيا، فمن هؤلاء وعلى سبيل المثال لا الحصر، أحد المدرسين الذي سرد لي زيارته السياحية في مصر بأسلوب مليء بالشغف والإعجاب، واصفاً وعلى وجهه سعادة مرسومة وغبطة قائلاً: "كم هي مصر جميلة!".
زادت سعادتي بذلك وشعرت ولو للحظات بالفخر ببلدي مصر لعلمي بما تحويه من كنوز ولكنه فجأة استطرد قائلاً بعد أن تغيرت ملامحه واعتلت وجهه علامات الأسف والضيق: "ولكنني لن أزور مصر مرة أخرى، وعلى الأقل حتى يتغير الوضع المزعج والمؤلم هناك، وتتغير المنظومة ككل".
حينها شعرت بالانزعاج الشديد سائلاً محدثي عن سبب الانزعاج، فقصّ عليّ ما يلي:
"لقد خرجنا في فوج سياحي من الغردقة إلى الأقصر وهناك صدمنا صدمة شديدة عندما شاهدنا مناظر الفقر والبؤس والعشوائيات منتشر في المناطق التي مررننا بها وفي مدينة الأقصر وبصورة كبيرة، تخيل عندما تعيش لأيام في مدينة مثل الغردقة بمبانيها ومنشآتها الفاخرة وأسلوب المعيشة والمطاعم الراقية وسكانها وموظفيها والذين لا يخفي مظهرهم بأنهم يتمتعون بثراء فاحش، وفجأة وبمجرد الخروج منها ترى عالماً آخر وسكاناً آخرين، أناساً واضح عليهم معالم الفقر المتقع والبؤس والحاجة ومساكن وأحياء فقيرة جداً، وكأنك انتقلت من دولة صغيرة شديدة الثراء إلى دولة أخرى كبيرة فقيرة وسكانها غاية في البؤس، حقيقة مناظر مؤلمة لا تطاق وفروق شديدة جداً تؤكد أن النظام السائد في إدارة الدولة غاية في الفساد".
ثم واصل حديثه: كل هذا يؤكد أن النظام الحاكم في البلاد نظام فاسد متحكم في مفاصل الدولة، نظام يدعم تفشي الفساد ونشره كثقافة في المجتمع، ويؤكد أن من يديرون الدولة المصرية لا يعملون من أجل شعوبهم، فمناظر الفقر والبؤس والمنتشرة في كل مكان خارج المنتجع السياحي تؤلم أي شخص له ضمير، وتؤذي النفس، ولذلك قررت ألا أزور مصر مرة أخرى، أرجو ألا أكون أزعجتك بصراحتي".
لماذا أهدرت المليارات على محاور لا تمر بأحياء العاصمة؟
الآن علمت أنه ربما من أهم الأسباب التي جعلتهم يهدرون المليارات من القروض على تشييد الكثير من الطرق والكباري فقط وفي محاور تمر خارج القرى والمدن المصرية بدلاً من بناء مشاريع إنتاجية وتحقيق تنمية في البلاد، هو أنهم يريدون بناء دولتهم الجديدة، دولتهم المنفصلة عن الدولة المصرية وعن الشعب المصري اجتماعياً وديموغرافيّاً واقتصادياً، دولة الأثرياء والجنرالات الخاصة بهم ليقدموا أنفسهم للعالم على أنهم من واجهة أثرياء العالم، وحتى لا يرى زائرو مصر جريمتهم البشعة التي ارتكبوها في حق المصريين، ولا يشاهدوا ضحاياهم من الفقراء والبؤساء والذين يمثلون غالبية الشعب المصري، ولا حتى مدنهم وقراهم وأحياءهم ونجوعهم ومساكنهم الفقيرة والتي يعمها العشوائيات، ولا تفضح فشلهم في التنمية في البلاد وتوفير حياة كريمة للمواطن، ولا تعري فسادهم وتبديدهم للمال العام.
إنه لمؤلم ومؤذٍ حقاً لكل من يمتلك بين جانبيه ضمير وجداني وإنساني حي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.