تربيت دائماً على القصص والحكايات التي روتها لي جدتي وأفراد عائلتي عن حياتهم الماضية، وكيف كان أفراد الأسرة الواحدة يتعايشون معاً في حب واحترام ومودة، وأكثر ما كان يدهشني في علاقة أبي وأخوته مع جدتي هو التفاهم فيما بينهم والتشاور بصوت منخفض لا يسمعه غير الحاضرين، والاحترام التام للأم مهما بدر منها، وكذلك احترام أخواتهن البنات وتلبية متطلباتهن وحمايتهن من كل مكروه وسوء.
هكذا تربت الأجيال السابقة، ولم يكن يسمع قصص قتل أخ لأخته أو حبيبته، وإن حدث فتكون بين قضية مهمة لا تتكرر، ومستهجنة ولها رادع، وكانت بعض أفلام السينما قديماً ما قبل سينما عادل إمام، وغيرها، تعكس مظاهر احترام المرأة والآداب العامة للسلوك في البيت وخارجه، ولكن للأسف نعيش في أيامنا الحالية أحداثاً بشعة تتوالى على مسامعنا كل يوم من أحداث قتل وعنف داخل أفراد الأسرة وبعضهم البعض، ما ينعكس أثره على المجتمع، ويقتدي الجيل الحالي بالنموذج المقدم لهم من السينما والمسلسلات والذي يؤكد على إهانة المرأة وممارسة العنف ضدها في كل وقت وحين، بسبب أو دون سبب، فتصبح شريعة الغاب هي السائدة، وخاصة مع غياب الوعي الديني والتثقيف المجتمعي وعدم قيام المؤسسات المسؤولة بدورها من محاسبة وتوعية ورقابة وغيرها.
والأسرة هي الأساس الذي تبنى به المجتمعات دائماً، فإن كانت البيئة الأسرية فاسدة، أنتجت لنا أعضاء فاسدين في المجتمع، بل ومفسدين أيضاً، وذلك لأن تربية الطفل في بيئة مليئة بالعنف تخرج لنا شاباً به كل المواد الخام اللازمة للقيام بأعمال العنف والقتل والفساد في المجتمع. فما هو العنف الأسري؟ وكيف ينعكس أثره على المجتمع؟ وهل يمكن أن تنجو بنفسك منه؟
العنف الأسري يتمثل في الأفعال المباشرة أو غير المباشرة الموجهة نحو أحد أفراد الأسرة بهدف إحداث الأذى النفسي أو الجسدي أو اللفظي أو الجنسي له، ويكون العنف عادةً موجهاً نحو الأفراد الأضعف في الأسرة وهم المرأة والطفل، ويشمل العنف الأسري عنف الزوج ضد الزوجة، أو عنف الزوجة ضد الزوج، أو ممارسة العنف من قبل الوالدين على الأبناء والعكس.
ما هي أشكال العنف الأسري؟
العنف المادي: ويشمل الإيذاء الجسدي، والقتل، والاعتداءات الجنسية.
العنف المعنوي والحسي: ويشمل الإيذاء اللفظي؛ كالسبّ والشتم والتجريح أو الوصف بصفات مزرية، والحبس المنزلي، والطرد من المنزل.
لماذا تمارس أسرةٌ العنف؟
أثبتت الدراسات على مستوى العالم الغربي والعربي أن أبرز المسببات وأكثرها انتشاراً هو تعاطي الكحول والمخدرات، يأتي بعده في الترتيب الأمراض والاضطرابات النفسية والاجتماعية لدى أحد الزوجين أو كليهما، إضافة لذلك فهناك أسباب عديدة تؤدي لحدوث العنف الأسري منها: الافتقار للوازع الديني، النشوء في بيئة مُعنفة، فقدان أساليب الحوار والنقاش والمشورة في الأسرة، انعدام التناسب في مختلف الجوانب ما بين الزوجين ومنها الجوانب الفكرية، العيش ضمن ظروف صعبة؛ كالفقر والبطالة.
كما أن للعنف دوافع متعددة منها؛ أولاً: الدوافع الذاتية التي تنبع من ذات الإنسان، ونفسه، والتي تقوده نحو العنف الأسري.
ثانياً: الدوافع الاقتصادية، ففي محيط الأسرة لا يهدف الأب إلى الحصول على منافع اقتصادية من وراء استخدامه العنف إزاء أسرته وإنما يكون ذلك تفريغاً لشحنة الخيبة والفقر الذي تنعكس آثاره بعنف من قبل الأب إزاء الأسرة.
وأخيراً الدوافع الاجتماعية، والتي تتمثل في العادات والتقاليد التي اعتادها مجتمع ما والتي تتطلب من الرجل، حسب مقتضيات هذه التقاليد قدراً من الرجولة في قيادة أسرته من خلال العنف، والقوة، وذلك أنهما للأسف بفهمه المقياس الذي يبين مقدار رجولته، وهذا النوع من الدوافع يتناسب طردياً مع الثقافة التي يحملها المجتمع، وخصوصاً الثقافة الأسرية، فكلما كان المجتمع على درجة عالية من الثقافة والوعي، تضاءل دور هذه الدوافع حتى تنعدم في المجتمعات الراقية، وعلى العكس من ذلك في المجتمعات ذات الثقافة المحدودة، إذ تختلف درجة تأثير هذه الدوافع باختلاف درجة ثقافات المجتمعات.
من هم ضحايا العنف الأسري؟
الأطفال: وهم من أكثر الفئات التي تحتاج إلى الرعاية والعناية والأكثر عرضة للعنف بسبب ضعفهم.
النساء: من المعروف أن المرأة تقوم بالتضحية من أجل الحفاظ على بيتها واستقرار عائلتها، وبالتالي قد يقوم البعض منهن بالتنازل عن حقوقهن ليكنّ بذلك ضحايا للعنف الأسري حفاظاً على الأبناء، وتمثل النساء أكبر نسبة في العنف الأسري أكثر من غيرهن.
كبار السن: قد تتعرض هذه الفئة للعنف الأسري من قبل أفراد عائلتهم؛ وذلك من خلال تهميشهم وعدم الاهتمام بهم ورعايتهم، أو قد يكون من خلال موظفي المؤسسات القائمين على رعايتهم والاهتمام بهم.
ذوو الاحتياجات الخاصة: قد يكون العنف الممارس بحق هذه الفئة من خلال خجل أسرهم منهم، وعزلهم عن المجتمع الخارجي وتحقيرهم، أو قد يكون ممارساً من خلال أفراد المؤسسات المسؤولة عن رعايتهم والعناية بهم.
الرجال: على غير الشائع، قد يكون الرجل هو الذي يتعرض للعنف الأسري من قبَل الزوجة، أو من والديه مثلاً حتى مراحل متقدمة في حياته.
كيف ينعكس العنف الأسري على أفراد المجتمع؟
وللعنف الأسري آثار عديدة نذكر منها ما يلي:
آثار العنف الأسري الاجتماعية: يميل الفرد المُعنف أُسرياً إلى الهروب من ذلك في طرق كثيرة، منها مثلاً التوجه لإدمان الكحول أو المخدرات لتقليل الشعور بالألم الجسدي والنفسي، والتهديد أو ممارسة العنف في المجتمع إلى التفكك العائلي، وتدمير البيئات الأسرية السليمة والصحية؛ إذ يتجنب الأفراد الشخص المُعنف داخل المنزل، وفي الحالات المُتقدمة يكون تدخل الشرطة ومُنظمات حماية الأسرة ضرورياً، كما يؤدي العنف الأسري إلى زيادة نسبة التشرد والتسول؛ وذلك عند لجوء الأفراد المُعنفين للخروج من منازلهم دون وجود مأوى أو مصدر دخل ثابت ليتمكنوا من إعالة أنفسهم.
التفكك الأسري: إن استخدام بعض الآباء الشدة والعنف في التعامل مع زوجاتهم أو أبنائهم يؤدي إلى عدم العيش باستقرار وسلام، وذلك حتماً يؤدي إلى الطلاق. وكذلك تعرض الرجل للعنف من زوجته.
الطلاق: يؤدي انفصال الزوجين الناتج عن النزاعات وعدم التوافق بين الزوجين إلى تشتت أفراد الأسرة وبالتالي تشرد الأطفال. فالطفل الذي يعيش في أسرة معرضة للعنف الأسري يكون أكثر عرضة لاكتساب السلوك العدواني ويصبح عدوانياً في معظم تصرفاته ومع مختلف الأفراد في المجتمع كأصدقائه وإخوانه وأهله.
وحسب علماء النفس والاجتماع، فإن شدة الضغوط والنزاعات الأسرية تنشئ أطفالاً يميلون نحو السلوك المنحرف. ومن ناحية أخرى فإن المجتمع الحر غير المعرض للعنف لا يعاني أفراده من أي مستويات من التوتر والاضطراب، ويكون مجتمعاً أكثر أمناً واستقراراً. أما انتشار العنف في المجتمع فيؤدي إلى اضطرابه واختلال استقراره.
آثار العنف نفسياً ومعنوياً: تختلف الأعراض النفسية التي يسببها العنف الأسري من فرد لآخر، إلا أنها تشمل الشعور بالذل والعار، والغضب، والشعور بالاكتئاب، وعدم القدرة على حل المشكلات، وصعوبة في التركيز، وجلد النفس والذات، وعدم التعاطف أو الاهتمام بالآخرين، وفقدان القدرة أو الرغبة بإنجاز أيّ مهام أو حتى التوجه إلى المدرسة أو العمل، وأخيراً قد يؤدي إلى الانتحار.
إضافة لذلك فيؤدي لظهور اضطرابات الكرب التالي للصدمة النفسية PTSD؛ كالقلق، واسترجاع ذكريات الماضي، والكوابيس، وغيرها، ويعاني الفرد من الشعور بالخوف من المستقبل، وانعدام الأمل، والتشكيك في الإيمان والمعتقدات الدينية.
آثار العنف الأسري الصحية والجسدية: يؤدي العنف الممارس على أفراد المجتمع إلى مشكلات صحية عديدة ومنها؛ المرض كالصداع وآلام المعدة، والعجز، أو الموت في بعض الحالات المتقدمة. ويُخلف أضراراً وجروحاً جسدية قد يكون من الصعب علاجها، كما يؤدي إلى حدوث اضطرابات في الأكل والنوم، وتدني مستويات التركيز لدى الأفراد المُعنفين، وتتعرض الضحية إلى متلازمة الوسواس القهري، إضافة إلى انعدام الثقة بالنفس أو حتى تقديرها، وانعدام الرغبة بالإنجاب والتوجه نحو عمليات الإجهاض -بالنسبة للزوجة- وحصول اضطرابات في الدورة الشهرية والخصوبة.
كيف يؤثر العنف الأسري على الأطفال؟
يؤثر العنف الأسري على الأطفال بأن يؤدي إلى عدم اكتساب القيم الاجتماعية الإيجابية والسليمة ومنها الاحترام، وممارسة العنف في المدرسة تجاه الزملاء والأصدقاء، وقيام الطفل بسلوكيات التنمر أو قد يكون هدفاً للتنمر، وظهور تأثير كبير على النمو السليم للأطفال نتيجة السلوكيات السلبية من العائلة، وظهور اضطرابات في النطق؛ كالتأتأة والتلعثم بالكلام.
كيف يمكنك النجاة بنفسك من آثار العنف الأسري؟
السبيل الوحيد للخروج من دائرة العنف المنزلي هو اتخاذ إجراء عملي وعدم إخفاء المشكلة والسكوت عليها، والخطوة الأولى هي إخبار شخص ما بشأن الإساءة، سواء كان طبيباً نفسياً تثق به وبكفاءته، أو صديقاً أو قريباً عزيزاً أو موفر الرعاية الصحية أو مستشاراً دينياً أو أي شخص آخر موثوق.
كما يجب نشر الوعي الأسري وأهمية التوافق والتفاهم بين أفراد الأسرة، والاتفاق على نهج تربوي واضح بين الوالدين، وإيجاد نوع من التوازن الممكن بين العطف والشدة، وبين الحب والحزم، أو الحب المعتدل والنظام الثابت، وبين الحرية والتوجيه، إلى جانب خلق بيئة مواتية لعلاقات تعاطف وتعاون بين الآباء والأبناء.
التثقيف المبكر للزوجين قبل الزواج ومعرفة الحياة الزوجية وأنها لا تخلو من مكدرات، وأن الواجب على كلا الزوجين مقابلة ذلك بالصبر والاحتساب، كما يجب على كل منهما معرفة ما له وما عليه من حقوق وواجبات زوجية، لكيلا يدع الواجب عليه أو يطالب الآخر بما لا يجب عليه.
توعية المجتمع إعلامياً لتغيير النظرة السائدة تجاه العنف ضد الأطفال التي ترى أن الأمر طبيعي، وبخاصة قبول العنف الجسدي، وكذلك حول قيمة المرأة في المجتمع وأهميتها، وأنه من غير المسموح أن تُمارس عليها أفعال جائرة من العنف بصفتها إنساناً لها ما للرجل من حقوق، وعليها ما عليه من واجبات.
قيام المؤسسات الدينية بدورها في تكريس مفهوم التراحم والترابط الأسري، وبيان نظرة الأديان للمرأة واحترامها وتقديرها لها.التوعية والتثقيف من خلال المؤسسات التعليمية عبر المناهج الدراسية والندوات العلمية والمحاضرات الثقافية، لتوضيح الآثار السلبية جراء انتشار ظاهرة العنف الأسري كإحدى المشكلات والأمراض الاجتماعية وآثارها على المجتمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.