فرنسا نحو مزيدٍ من الشعوبية والتطرف.. كيف فشل ماكرون في التحايل على الناخبين الفرنسيين؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/24 الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/24 الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - Getty Images

حرم الناخبون الفرنسيون تكتل "معاً" ("أنسامبل"ـ وسط) الذي يضم حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (نهضة/ رونيسانس) من الأكثرية المطلقة، وبذلك فقدت قوى الوسط الماكروني قدرتها على حكم فرنسا لوحدها، وذلك لأول مرة منذ خمس سنوات.

أصبح على الرئيس الفرنسي، الذي أعيد انتخابه في نيسان/أبريل الماضي، أن ينسج تحالفات مع قوى سياسية أخرى من أجل الوصول إلى الأكثرية المطلقة داخل مجلس النواب. بكلام آخر، أصبح على ماكرون أن يختار بشكل واضح وعلني، دون مواربة، بين يمينه وبين يساره، وذلك لكي يبني تحالفاً نيايبياً يمكّن حكوماته من نيل الثقة وتمرير القوانين في مجلس النواب، أي أصبح عملياً على ماكرون أن يتنكّر -ولو جزئياًـ لأيديولوجية أقصى الوسط (لا يمين ولا يسار) التي يجسدها في رأس هرم مؤسسة الحكم الفرنسي منذ 2017.

لن يختار ماكرون من هم على يساره من أجل بناء حلف نيابي يمكّنه من الوصول إلى الأكثرية المطلقة داخل المجلس، وذلك لأسباب كثيرة.

جعل الصراع الكبير بين إيمانويل ماكرون وجان لوك ميلانشون- رئيس حزب "فرنسا الأبية" (أقصى اليسارـ ضمن تحالف "نوبيس" اليساري الذي ضمه إلى الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وحزب الخضر)ـ الذي تمحورت حوله الانتخابات التشريعية الأخيرة، من التحالف بين الرجلين أمراً مستحيلاً، لا سيما بعد أن تخلى ماكرون عن وسطيته خلال ولايته الرئاسية الأخيرة وجنح بوضوح نحو اليمين في الأمور الاقتصادية والاجتماعية (النيوليبرالية)، ونحو أفكار اليمين المتطرف في الشؤون الأمنية وتلك المتعلقة بالمهاجرين والتضييق عليهم، لا سيما المسلمين منهم (قانون "الانفصالية" مثلاً)، وذلك رغم تستره وحزبه برداء الوسط.

وقد فتح جنوح ماكرون نحو خطاب أقصى اليمين، وتبنيه عدداً مهماً من أفكاره وشعاراته خلال الخمس سنوات الأخيرة في محاولة لاستمالة ناخبيه، الباب على مصراعيه أمام التقدّم المهول (عدد نواب أكبر بعشر مرات عن دورة 2017) الذي حققه حزب مارين لوبان في الانتخابات النيابية الأخيرة، فبدل أن يؤتي تذاكي ماكرون أكله لصالح الوسط، يظهر اليوم سيد الإليزيه بمظهر "الغبي المفيد" (بتعبير ماركسي) لليمين المتطرف، وهو المسؤول الأول عن هذا الانفلاش النيابي التاريخي الذي يحققه أقصى اليمين لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية.

من المرجح أن يختار ماكرون التحالف مع القوى الموجودة على يمينه، وتحديداً حزب "الجمهوريين" (يمين) الذي ما زال للرئيس السابق نيكولا ساركوزي قوة تأثير معتبرة داخل صفوفه. رغم تقلص عدد نوابه من 100 إلى 64 نائباً في الدورة الأخيرة من الانتخابات التشريعية، فإنّ حزب "الجمهوريين" يجد نفسه اليوم في موقع قوة لفرض شروطه على الرئيس الفرنسي الذي أصبح بحاجة لتحالف ما داخل مجلس النواب لنيل الأكثرية المطلقة.

وإذا كان العدد الأكبر من قيادات حزب "الجمهوريين" ما زال يرفض التحالف مع ماكرون مفضلين بذلك البقاء في المعارضة، إلا أنّ عدداً آخر منهم يميل نحو دفع الحزب للتحالف مع الأكثرية النسبية الماكرونية في المجلس، لا سيما من باب تمييز أنفسهم (أي "الجمهوريين") عن اليمين المتطرف -برئاسة مارين لوبان- الذي لم يكن يوماً، على عكس الجمهوريين، حزباً مشاركاً في الحكم، أي حزباً قادراً على المرونة السياسية والإيجابية عبر الحوار مع الأطراف السياسية الأخرى وإيجاد الحلول الوسط، بل ظل حزب لوبان حزباً شعبوياً يكتفي بالمعارضة السلبية غير البناءة، خصوصاً عبر الاستثمار بشعور ناخبيه بالغضب على الحكومات المتعاقبة، والتلويح بـ"خطر المهاجرين والإسلام".

ولكن قبل كل ذلك، ربما أول ما يجب على الرئيس الفرنسي القيام به هو تغيير رئيسة وزرائه، وهي من الوجوه التكنوقراطية غير السياسية. على الرئيس الفرنسي أن يقرأ جيداً نتائج هذه الانتخابات النيابية، وأن يفهم أنّ أهم ما جاء فيها هو لفظ الناخبين الفرنسيين لأيديولوجية "أقصى الوسط" التي يجسدها ماكرون، والتي كان خير مَن نقدها الفيلسوف الكندي ألان دونو، لا سيما في كتابيه "أقصى الوسط" و"نظام التفاهة"، أو نظام الرداءة التكنوقراطية الذي يرفد أقصى الوسط ويغذيه ويتغذى منه بنفس الوقت.

اليوم، لم يعد ينطلي على كثير من الناخبين، الذين كانوا قد أعطوا ماكرون أكثرية مطلقة سنة 2017، اختباؤه خلف شعار لا يمين ولا يسار، إذ لم تكن "وسطيته" التي يتغنى بها إلا مطية لإرساء نظام تكنوقراطي بخدمة سياسات نيوليبرالية زادت الأعباء الاقتصادية على الطبقات الوسطى والشعبية، في حين تم إلغاء قسم كبير مما يُعرف بـ"الضريبة على الأغنياء".  

ظهرت "وسطية" ماكرون على حقيقتها المتطرفة (ومن هنا تعبير "أقصى" الوسط الذي اجترحه ألان دونو، أي كفي "أقصى" اليمين أو في "أقصى" اليسار) لكثير ممن خيب ماكرون آمالهم في الخمس سنوات الماضية، أي كمجرد قناع خطابي لسياسة اقتصادية ليبرالية متطرفة وهدامة لمكتسبات الفرنسيين الاجتماعية، سياسة لا تتردد بعد ذلك في الاستثمار في خطاب اليمين المتطرف الشعبوي، لا سيما في خطاب معاداة المسلمين والقوانين التي تستهدفهم، وذلك في محاولة من ماكرون لامتصاص النقمة الشعبية على سياساته الاقتصادية والاجتماعية عبر تقديم المسلمين ككبش فداء على مذبح الغضب الشعبوي.

اليوم، يقول الناخبون لماكرون إن القناع قد سقط، وإنه قد انتهى زمن خدعة "أقصى الوسط" ونظامه، أي نظام الرداءة والتكنوقراطية التي تخدم، بذريعة الوسطية، السياسات النيوليبرالية الهدامة اجتماعياً. إذا أراد ماكرون اتباع سياسة اقتصادية يمينية، أصبح عليه الخروج من ادعاء الوسطية (لا يمين ولا يسار) وأن يكشف عن لونه السياسي الحقيقي، وذلك عبر اختياره الواضح لحلفاء من اليمين يمكن أن يوافقوا على سياساته، بعد أن أصبح بحاجة إلى تحالفات من أجل الحصول على الأكثرية المطلقة داخل مجلس النواب.

وعليه، يقول الناخبون لماكرون إنه قد انتهى زمن حكومات الموظفين برئاسة تكنوقراط، انتهى زمن حكومات أمثال "جان كاستيسكس" و"إليزابيت بورن" من التكنوقراط الذين يفتقرون لأي كاريزما سياسية، فالمرحلة أصبحت تتطلب حكومات سياسية بامتياز، حكومات برئاسة شخصية مخضرمة وماهرة سياسياً، شخصية يكون لديها وزن وخبرةُ سياسيين معتبرين يمكّناها من نسج التحالفات، وتدوير الزوايا، والتوصل إلى حلول وسط مع قوى سياسية خارج البيئة الماكرونية.

بالمحصلة، هو درس في التواضع السياسي لقَّنه الناخبون الفرنسيون لماكرون، وذلك بعد أسابيع قليلة من إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية، وخلاصته: "من الآن فصاعداً، إذا كنت تريد أن تحكم، فلن تستطيع أن تفعل ذلك وحدك، بل عليك أن تتواضع وتمد يدك لغيرك من القوى السياسية داخل مجلس النواب".

إنها نهاية "أقصى الوسط" كغلاف أيديولوجي، وعودة السياسة من بابها العريض، إنها ضربة قوية لنظام الرداءة (أو التفاهة) التكنوقراطية الذي أرساه أقصى الوسط كما لم يسبق لأي قوة سياسية أن فعلته على رأس الدولة الفرنسية.

فهل يخضع "جوبيتير" (تيمناً بكبير الآلهة الإغريق، كما تسمي الصحافة الفرنسية ماكرون بما لا يخلو من التهكم) لإرادة الشعب الفرنسي الذي حجّم قوته السياسية داخل مجلس النواب، ويتواضع؟ أم يحل مجلس النواب كما يجيزه الدستور الفرنسي، ويدعو لانتخابات نيابية جديدة، مخاطراً بذلك بما تبقى له من شعبية؟

الأشهر القادمة كفيلة بالرد على هذا السؤال.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد