قامت صحفية ألمانية من أصل أرميني "أنّا أريدزنيان" بكتابة تويتة من ذكريات طفولتها في ألمانيا، حين كان يحل موعد العشاء واتفق أن لعبها مع صديقات الطفولة في بيوتهن لم ينتهِ بعد، فكانت تسمع عبارات، مثل "عليك الانصراف، فنحن سنتناول العشاء الآن!" أو في أفضل الأحوال، "عليك البقاء في غرفة الأطفال، فنحن سنتناول العشاء الآن".
وبمنتهى الأريحية سيذهب الطفل أو الطفلة لأسرته على مائدة العشاء -تاركاً صديق(ت)ه- حيث يتناولون وجبتهم في الطقس العائلي المقدس، فالمائدة معدَّة لأفراد الأسرة فقط، وهذا تصرف إن كان عادياً لدى الألمان البيض، إلا أنه دائم النقد من كل الثقافات التي رأيتهم قد عاشوا هنا برتغاليون، أرمن، بلجيك، فضلاً عن الترك والعرب والمسلمين بوجه عام، والذين لديهم مثل هذا السلوك عجيب ومشين ومهين وNo go مثلهم مثل الجنوب أوروبيين كالبرتغاليين والإيطاليين، الذين يتحلون بكرم ثقافات الجنوب المتوسطي إلى حد كبير، لا يعرفه الألمان الكلاسيكيون أبداً!
وتضيف الآنسة أريدزنيان قائلة إن هذا لم يحدث أبداً عند صديقاتها من العائلات الألمان ذوي الأصول الپولندية والأفغانية والهندية، فكان شيئاً طبيعياً أن تشاركهم المائدة حين يحل وقت الطعام.
وما إن قامت أنّا برفع تغريداتها، حتى تلقت تفاعلاً من العديد ممن نشأ هنا في ألمانيا بخلفيات ثقافية مختلفة، بمن فيهم الألمان، حيث أدلى كلٌّ بشهادته على هذه العادة العجيبة وذكرياته من طفولته ومغردين بنوادر وتفسيرات وضحكات، حتى كان ذلك ملهماً لمقالة على دير شپيجل جاء فيها: "يقولون إن الألمان حين يطهون فهم يضعون حبات البطاطس بالعدد في الطنجرة وفق عدد أفراد الأسرة الحاضرين، وأي إخلال بالنظام غير مسموح به".
حقاً، فالألمان بوجه عام هم غير مرنين بالمرة حين يتعلق الأمر بالإخلال بالنظام!
نظام؟ أي نظام هذا؟! هذا طفل جائع! نعم يا صديقي فالقضية في أعين الألمان لا يرونها من قبيل الكرم والبخل، لكنهم يفسرونها بأن وقت الأسرة واجتماعها اليومي على المائدة، هذا شيء مقدس ومنزه عن أي إزعاج أو ارتجال خارج الخطة! بغض النظر عن اتفاقنا أو رفضنا التام لهذه النظرة الضيقة، فقط أحاول تفسيرها لك في موضوعية مع إقراري بأن حتى الشعوب التي تجاورهم الباب بالباب يعيبون السلوك نفسه على الألمان!
فأنّا تؤكد، أنها لا تجد أي مبرر لترك طفل في غرفة من المنزل منبوذاً حتى ينتهوا من طعامهم! فالطفل يحس أنه مرفوض وغير مرغوب فيه، ويفكر فيما عساه قد صنع كي يعاقَب أو يعامَل هكذا، وتكتمل المصيبة بأن الطفل المغبون بالنبذ، عادة ما كان لا يفصح عن هذا لأهله حين عودته، لذا فكانت تأكل قليلاً رغم جوعها -وكأنها قد أكلت عند صاحبتها- وأحياناً تذهب للنوم وهي جائعة لم تسد مخمصتها!
وتؤكد على كلامها ألمانية أخرى من أب ڤينزويلي، والتي نشأت في كراكاس -انفتحت على ثقافات أخرى- لذا كانت تحس هي الأخرى بذات الإحراج حين كانت تطلب أمها الألمانية منها أن تصرف صديقاتها الڤينيزويليات قبيل وقت الغداء أو العشاء مباشرة، أو أن تمنعها من استقبالهم إلا بعد انتهاء وقت الطعام، فتصرف كهذا يرى في ڤينيزويلا شيئاً منتهى قلة الأدب والذوق واللياقة، بل والمروءة أيضاً.
وتأتي تويتة أخرى من "سيلڤيا شتاينتس" لتؤكد على الألم النفسي الذي سببته هذه العادة لها، مما يوضح أن القضية لم تمس فقط الأطفال ذوي الأصول الأجنبية، لكن مع جميع الأطفال بمن فيهم ألمان آخرون غير تقليديين!
مما حملني على تذكر جلستنا الطريفة المعتادة عصر كل سبت مع زملاء الدراسة في مدينة مونستر قبل نيف وعشرين عاماً خلت، حيث اعتدنا الاجتماع كطلاب مغتربين -ذوي غالبية عربية- في يوم خالٍ من المحاضرات، نتبادل فيه الأسمار والأباطيل عند صديق مغربي.
وكانت هذه الجلسات الطلابية متنفساً لنا للحديث باللسان العربي كي لا ننساه، ومعيناً لا ينضب للأخبار والخبرات بالمدينة. وكان بيننا آنذاك أخ جديد في المدينة، بل وفي ألمانيا كلها، يسرد علينا مأساته كيف اضطرته الظروف وحظه العاثر عند عودته من سفرٍ أو عمل متأخر -لا أذكر- ولم يلحق بمتاجر الطعام ليشتري منها ما يلزمه -المتاجر هنا تغلق تماماً يومي الأحد والإثنين- وآنذاك كانت المتاجر توصد أبوابها في الرابعة ظهراً من يوم السبت (قبل العصر، رغم طول ساعات النهار في صيف شمال أوروبا)، قبل أن يمدوها إلى الثامنة مساءً كما هي الآن- فقام الأخ بما قد نعرفه في الشرق بسؤال ودِّي لجاره الألماني في سكن الطلبة، إن كان لديه خبزاً زائداً؟! فتكفيه شريحتان أو ثلاث يقيم بها أوده حتى تفتح المتاجر يوم الثلاثاء؟
فقام جاره وزميله الألماني بإعطائه كيساً به بواقي خبزه القديم، لا أذكر تماماً أربع أو خمس شرائح، وطالبه في حينها بثمنها والذي استخرجه على الآلة الحاسبة أمامه كسوراً من اليورو!
أتذكر ملامح صديقي يومها وهو يقصُّ علينا مغامرته مع الربع رغيف غير الطازج المبتاع، وكيف كان كظمه لغيظه في ذاك الموقف، حيث فكر كعربي حر أن يترك لجاره وزميله غريب الأطوار اليورو كاملاً كي يعلمه درساً أخلاقياً أن مثل هذه الأشياء لا تُحسب هكذا، لكن من ضيقه ودهشته وجد نفسه ينتظر الباقي من السنتات من هذا الجار البخيل!
فما وسعنا في جلسة الشاي حينها إلا أن أيدناه ضاحكين فيما فعل ونحن نرتشف "الأتاي" (شاينا الأخضر المغربي) ممتعضين من سلوك جاره الشائع هنا، ومذكرين إياه بالمثل الألماني الذي يجعلك أقدر على تقبل عادات وتقاليد الغير مهما كانت عجيبة أو مستهجنة: "شعوب أخرى، عادات أخرى"! "Andere Länder andere Sitten".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.