منذ اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا، أخذت الدول الغربية لا سيما في أوروبا تتصرف بهلع، واكتسحت الدول الأوروبية موجة ذعر كبيرة، وعلى الرغم من كل مقدمات الحرب التي كان المراقبون يرصدونها، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية أكدت على حدوث الغزو الروسي قبل حصوله، فإن ردة الفعل الأوروبية كانت كمن فوجئ بحدث غير متوقع، وراحت الدول الأوروبية، وعلى الرغم من علاقاتها الاقتصادية العميقة مع روسيا، تتصرف تحت وطأة الهلع التي أصيبت به، وراحت تقذف بالعقوبات تلو العقوبات على روسيا، وتتصرف بشكل هيستيري وصل إلى حد إلغاء محاضرات عن الأدباء الروس الكبار في الجامعات والمعاهد الأوروبية، وطرد رياضيين روس من البطولات العالمية، وإدخال السياسة في الرياضة ودعم أوكرانيا في المحافل الرياضية، وهذا تصرف خطير وغير مسبوق في الرياضة والدبلوماسية والعلاقات بين الدول والشعوب التي ليس بالضرورة أن تتحمل تبعات سياسات حكوماتها، خاصة إذا كانت حكومات شمولية أو ديكتاتورية بشكل أو بآخر.
إن حجم العقوبات التي فُرضت على روسيا عبر ست حزم حتى الآن من المفترض أنه كبير ومؤلم للاقتصاد الروسي وللشعب والنظام الروسيين كذلك، لكن روسيا منذ اليوم الأول أخذت تتصرف ببرود تجاه العقوبات، ويبدو أنها كانت مستعدة لها استعداداً كبيراً، ومع تلقي الصدمة الأولى واستيعابها، بدأت روسيا تطبيق إجراءات ساعدت على التصدي لأي انهيار اقتصادي محتمل، وتدهور في سعر صرف الروبل مقابل العملات الأجنبية، وكانت النتائج مذهلة؛ إذ استفادت روسيا بشكل كبير من العقوبات الأوروبية والأمريكية التي أدت إلى رفع أسعار الطاقة العالمية، في ظل عدم قدرة أوروبا- إلى لحظة كتابة هذا المقال- عن التخلي عن مصادر الطاقة الروسية، كما ساعدت سياسات موسكو الجديدة على انتعاش الروبل إلى مستويات قياسية تفوق أرقام 2017 بعد أن كان قد فقد 70% من قيمته، قبل خطوات موسكو الجديدة، كما استفادت موسكو من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية التي تعد روسيا أحد أبرز منتجيه في العالم، لا سيما القمح والحبوب والزيوت النباتية.
أما على الجانب الآخر في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا اللتين تُعدان أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، فقد وقعت العقوبات قاسية على اقتصادات هذه الدول، فارتفاع أسعار النفط والغاز أدى إلى موجة تضخم غير مسبوقة في هذه الدول، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وبات المواطنون الأمريكيون والأوروبيون يعانون من غلاء وتضخم بلغت نسبته حتى الآن بحسب الأرقام الرسمية في ألمانيا على سبيل المثال 11.5%، بينما يشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن أرقام نسب الغلاء والتضخم أعلى من ذلك بكثير، هذا فضلاً عن مشاكل البطالة التي بدأت في الزيادة وتباطؤ النمو الاقتصادي بشكل كبير وبوتيرة سريعة.
ووصل الأمر بهذه الدول الكبرى إلى التحذير من خطر انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في اليوم بسبب غلاء أسعار الطاقة، وتهديد روسيا بقطع إمدادات الطاقة عن الدول غير الصديقة، الأمر الذي دفع ألمانيا إلى إعادة تشغيل مصانع الكهرباء التي تعمل على الفحم الحجري؛ ما يهدد بكارثة بيئية لألمانيا والعالم في ظل تفاقم مشاكل التلوث والاحتباس الحراري.
والأخطر من هذا بالنسبة إلى أوروبا أن الخلافات بدأت تدب بين دول الاتحاد حول هذه العقوبات، وبدأت أصوات الاعتراض على الدول الكبرى فيه؛ مثل ألمانيا وفرنسا، تُسمع من الدول الصغيرة الأكثر اعتماداً على المنتوجات والطاقة الروسية، حتى جاءت بعض العقوبات باستثناءات لهذه الدول ما أفرغها من مضمونها، ولو سلّمنا جدلاً بجدواها أصلاً.
ولم تتمايز المواقف الأوروبية في قضية العقوبات فقط، بل تباينت هذه المواقف من طريقة التعاطي السياسي مع روسيا، ففيما تقود أمريكا وبريطانيا مواقف متطرفة من روسيا تميل ألمانيا إليها بقوة، تبدو فرنسا أكثر تعقلاً ومنطقية في التعاطي مع الأزمة، وكان موقف الرئيس الفرنسي ماكرون متقدماً عندما عبر عن ضرورة عدم إذلال روسيا كي لا تتحول إلى التطرف في سياساتها وتصرفاتها العسكرية، وهذا رأي سديد.
طبعاً ما زلنا لم نحسب خسائر الدول الأوروبية بسبب اللاجئين، وتكاليف الحرب التي تتحملها من خلال إرسال الأسلحة النوعية بكميات كبيرة على حسابها الخاص إلى أوكرانيا، ورفعها لميزانياتها العسكرية إلى أرقام مهولة بمئات مليارات اليوروهات، وكلها ستحول من مشاريع حيوية لهذه الدول كان من المفترض تنفيذها، أو يتم سحبها من جيوب المواطنين على شكل ضرائب مرتفعة جداً.
هذا بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا، أما الدول الفقيرة في سائر العالم فقد باتت مهددة بالجوع بسبب هذه السياسات الأمريكية والأوروبية، فمعظم شعوب الدول الفقيرة لا تستطيع تحمل تكاليف الطاقة المرتفعة، وتعاني من شح العملات الصعبة لتأمين الغذاء لها، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في العالم يضع هذه الشعوب في وضع صعب جداً، خاصة في إفريقيا التي تعاني بالتزامن مع هذه الحرب من أكبر موجة جفاف منذ عقود.
وبدأ الناس لا سيما الأطفال يموتون من الجوع والعطش، ويهاجر قسم منهم عبر المتوسط إلى أوروبا ضمن قوافل الهجرة غير الشرعية، وصحيح أن هذه الهجرة كانت موجودة قبل الحرب، إلا أن العقوبات الأوروبية والوضع الجديد الناشئ في الاقتصاد العالمي سيزيد ويسرع من وتيرتها، وهكذا سترتد هذه العقوبات أزمات اقتصادية واجتماعية على أوروبا من جديد.
بالنتيجة، تبدو أوروبا وكأنها قد أطلقت النار على أقدامها وعاقبت نفسها وعاقبت شعوب العالم معها بسياساتها هذه وردود فعلها التي حتى اللحظة يبدو أنها لا تؤثر إلا قليلاً في الاقتصاد الروسي، بسبب استعداد الروس الجيد لها، ولو قلنا إن هذه العقوبات ستؤتي ثمارها على المدى البعيد فإن المراقبين يعلمون أن روسيا أقدر على الصبر في لعبة عض الأصابع في ظل توفر الموارد التي تحتاجها لديها، على عكس الاقتصادات الأوروبية، التي تحتاج الكثير من المستوردات والتي تملكها روسيا، فبالإضافة إلى الطاقة والغذاء تصدّر روسيا الغازات النبيلة التي لها استعمالات عدة، واليورانيوم الضروري للمفاعلات النووية الأوروبية والأمريكية على حد سواء وغيرها الكثير.
تَتبعُ أوروبا أمريكا في هذه العقوبات، مع أن أوروبا تعلم أن وضع الولايات المتحدة الاقتصادي بظل العقوبات أفضل منها حتى اللحظة، على الرغم من بعض الصعوبات التي تواجهها، وإن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذه العقوبات إلى الإبقاء على نفسها القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في العالم، متجاهلة مصالح دول العالم وشعوبها، ففي بداية الحرب وبظل الهجمة الشرسة الإعلامية على روسيا، سُئل الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية من قبل أحد الصحفيين: هل تقبل الولايات المتحدة أن تتصرف كوبا التي هي على حدودها كما كانت تتصرف أوكرانيا على حدود روسيا، وأن تتحول قاعدة عسكرية ومخزناً للأسلحة لحلف مناوئ للولايات المتحدة الأمريكية، طبعاً لم يُجب المتحدث الرسمي، لأن الإجابة معروفة.
ومنذ بدأ الصعود الاقتصادي الصيني وجدنا الولايات المتحدة كمن مسّه الجنون، تعلن بشكل دائم خوفها من الخطر الصيني، مع أن الصين لم تصرح مرة واحدة ضد الولايات المتحدة، وليس لها قواعد عسكرية في دول العالم، ولا تتدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية لدول العالم، ولكن يبدو أن الولايات المتحدة حريصة على البقاء في المركز الأول عالمياً من دون منازع، فبعد الحرب العالمية الثانية وخروج الولايات المتحدة بأراضيها واقتصادها سليمة وبعد توقيع اتفاقية بريتين وودز حصلت أمريكا على نفوذ عالمي لا ينازع، وربما اعتبر الأوروبيون يومها أنها تستحق هذه المكانة لمساعدتها في هزيمة النازية.
لكن عالم اليوم لا يشبه عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فأوروبا لم تعد مدينة للولايات المتحدة بشيء بعد أن جعلتها تتربع على عرش العالم لأكثر من نصف قرن، تدخل حيث تشاء، وتعاقب من تشاء وتقتل من تشاء، وتحارب كل من يعترض على سياساتها، وطبعاً لا يجب أن تنسى أوروبا حجم التضحيات التي قدمتها روسيا لهزيمة النازية، والخسائر التي تكبدها جيشها خلال الحرب وهي الأكبر في أوروبا وقد بلغت حوالي 25 مليون قتيل.
فعلى القارة الأوروبية أن تعلم أن الحرب الباردة قد انتهت وأن عالم اليوم ليس عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها ليست مهزومة ولا مدمرة، وأنها تمتلك من أوراق القوة الشيء الكثير، وربما يجب أن نذكر أوروبا بأن الدب الروسي عبر التاريخ لم يقم بغزو الدول الأوروبية، بل أوروبا وإمبراطورياتها هي التي قامت بغزو روسيا غير مرة قبل نابليون وبعده وصولاً إلى النازية، وأن الخطر الحقيقي كان دائماً الأطماع الغربية في روسيا وخيراتها.
في المحصلة، لا نريد أن نبدو وكأننا نؤيد الحرب الروسية على أوكرانيا، فموقفنا هو ضد الحروب والدمار بالمطلق، بعدما عانينا وما زلنا نعاني من ويلات هذه الحروب في دولنا العربية منذ سنوات، وطبعاً نحن لا نؤيد موقف دولة ما بأي شكل من الأشكال، لكننا فقط نتساءل عن جدوى هذه العقوبات على روسيا، ونسأل: ما هي أسباب أن تعاقب أوروبا نفسها وتعاقب العالم معها؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.