كلنا نعرف أن أصل الحياة الزواج، مودة ورحمة، إلا أنه أحياناً تنعدم تلك المودة والرحمة وتُنتهك قدسية الزواج، وهنا يكون الطلاق أكبر إنجاز يدل على قوتك، ولا يعني الطلاق أبداً أنك إنسان فاشل، فبعض الأشياء ممكنة، ولكنها لا تناسبنا، فمن المؤكد أنك حاولت مراراً وتكراراً لإقامة ذلك المنزل واحترام قدسية تلك الحياة وتربية أبنائك تربية سوية متزنة بوجود أب وأم معاً، ولكنك لم توفَّق، ولم يكن لك خير في تلك الحياة.
الإنجاز العظيم هنا يكون في إنقاذ صورة الأسرة في ذهن أطفالك قبل أن يروا أفعالاً سيئة تمزقها وتمزق معها قلوبهم وسواءهم النفسي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوائهم إن رأوا مساوئ تلك العلاقة وهشاشتها، المهم هنا أن تكون على وعي ودراية بخريطة طريقك الجديدة؛ ليكون أطفالك أقرب إلى السواء تحت كل ظروف الانفصال.
لذلك أحببت في مقالي الأول أن أكون كعادتي ناصرة لكل أُم قوية، انفردت بتربية أبنائها، أو كل أب رائع انفرد بتلك المهمة السامية، فعلى الرغم من صعوبةِ التربية في هذا الموقف المؤسف، فإن هناك ما يميزه!
والسؤال هنا: أفي الطلاق مميزات؟!
والإجابة بالطبع: نعم.
فلو كان الطلاق بلا مميزات ما أحله الله أبداً. ففي مشروعية الطلاق في الإسلام رحمة لم تشرع في الأديان الأخرى، لكن هناك ضوابط لمشروعية الطلاق كاستحالة العيش بينكما، والإيذاء الجسدي والنفسي من أحدكما تجاه الآخر، أو ارتكاب الفواحش أو الزنا، ما نسميه بالخيانة، وهناك ضوابط أخرى لكني لن أتوغل فيها، فهي ليست اختصاصي، ولكن أردت لفت انتباهكم لتلك الضوابط، وحكمة الله في تشريعه رغم بغضه له، فهذه هي الضارة النافعة، أعلم أنك تتساءل.. كيف؟!
أولاً: أنا متأكدة أنك حاولت مراراً حماية تلك العلاقة من الهلاك لأجل أطفالك ولأجل العشرة والمجتمع، لكن في كل مرة كانت محاولاتك تبوح لك بأن قدرك ونجاحك في قوة قرار البُعد والانفصال.
ثانياً: ألم تكن سموم تلك العلاقة عندما كانت قائمة، توقفك عن التربية الصحيحة لضغوط شديدة تجعلك تصرخين على أبنائك بلا سبب مقنع أو تصرُّف يستحق؟!
ثالثاً: هل شعرت بأن اهتمامك بأبنائك أصبح أكبر، ولديك وقت أكبر لهم دون لوم أو حساب على عدم قيامك ببعض المهام التي لم تكن أهم منهم؟!
رابعاً: ما دامت قد انتهت تلك العلاقة، فهي كانت سامة مجهدة لنفسك وناسفة لوقتك ومهدرة لصحتك، فتخيلي معي أنك الآن أوفر وقتاً وأكثر استقراراً وأكثر راحة نفسياً.
خامساً: الشخصيات السامة أصحاب سموم معدية، تؤثر في صحة الأبناء النفسية، وفي الوقت نفسه إن كنت شديدة القرب من تلك الشخصيات فلن تستطيعي التحكم فيما هو مكتسب من أفعالهم وأقوالهم وسلوكهم لأبنائك، وما هو مُصدر منهم إلا ببناء حدود بذلك الانفصال.
سادساً: تهدم الشخصيات السامة ما تبنيه أنت لأبنائك من عقائد وخلفيات وقيم بقصد إجهادك وإشعارك بالفشل، ثم لومك على ما لا ذنب لك فيه.
سابعاً: تفادي الأذى، سواء كان أذى نفسياً أو جسدياً، يجهدك ويهدر طاقتك، والبُعد عن جلد الذات والتقليل منها ومعرفة قدرك وقدراتك والعودة للحياة التي تشبهك من جديد.
ثامنا: امتلاك نفسك ووقتك والعمل على تطويرك سواء ذاتياً، أو عملياً، أو نفسياً لاستثمارها بعد أن أهملت ذاتك من أجل التفاني لإرضاء شخص لا يرضى.
تاسعاً: البعض منكم عانى من ألم الخيانة ومحاولة الطرف الخائن تحميلك ذنب تلك الخيانة والتقصير، لكن والله ما كانت تلك الخيانة إلا نقصاً يكمله الخائن في ذاته ولا يعيبك أبداً قبح خائنك، علماً بأن الخيانة تكون مجرد نظرة أو كلمة، فمن ارتضى قليل الحرام يرتضي كثيره، فلا تلومي نفسك فأنت العفيفة، اعلمي أن إرادة الله كلها خير، وإن كان ظاهرها شراً، لذا ارتضي ما أتاك الله، وتذكري قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11).
كيف نحافظ على أبنائنا من المخاطر النفسية للانفصال؟
سأذكر لكم هنا بعض الخطوات التي قد تناسبكم.
أولاً التأهيل النفسي: رواية القصص، ودائماً تكون أكثر طرق التأهيل النفسي تأثيراً؛ لأنها ترضي تخيل الطفل، لذلك أرجو ألا تحتوي على كلمات؛ صفات أو عبارات تؤذي طفلك حتى لا ينقلب السحر على الساحر، حينها نشقى في بناء ما تم تدميره: مثلاً (هناك طفل كان يعيش والده في منزل غير المنزل الذي يعيش فيه هذا الطفل، لكنه يمر عليه ليراه، أو يتصل به ليتحدث إليه على الهاتف دائماً ويقضي معه وقتاً رائعاً يملؤه المرح والسعادة، لكنه حين ينتهي اليوم يعود كل منهما إلى منزله) قصة تعبِّر عن وجود الحب والعائلة رغم الانفصال المكاني.
ثانياً: شرح مبسط وصريح عن حياتكم الجديدة للطفل، مع التأكيد على الحب والاحترام.
ثالثاً: الإجابة على أسئلة الطفل بوضوح دون الإساءة للطرف الآخر، وإشباع فضول الطفل تجاه كل سؤال بطريقة تناسب عمره: مثل (أن يسألك الطفل: هل بابا يحبك؟ أخبريه أن الحب أصبح احتراماً لأنني والدتك، ما هو الاحترام؟: هو عدم الإساءة للغير. ثم إعطاؤه أمثلة من واقع يومه).
رابعاً: استقرار الطفل في منزل واحد بعد الانفصال دون تنقل بين منزل الأب والأم بشكل مجهد، فالطفل ليس سباقاً يكسبه أحدكما، ولو كان هذا ما يحدث فإما أن تستطيع إصلاحه أو يكون الهلاك للجميع.
خامساً: تعزيز دور الطرف الآخر، مثل أن نجعله يشارك بعض النشاطات أو الأفكار مع الطرف غير الموجود بشرط أن يراعي ويحترم هذا الطرف القوانين القائمة بينك وبين طفلك، وعدم التقليل منها مع مراعاة نفسية الطفل.
سادساً: تعزيز حب الطرف غير الموجود مع الطفل، وعدم إظهار مشاعرك تجاهه أمام طفلك، حتى يصدق أنه حقاً يحبه، وتذكروا دائماً أن الطفل أهم، فهو استثماركم للغد، مثال: بابا يحبك كثيراً. وذكر بعض المواقف التي عاشها الطفل مع الطرف غير الموجود.
سابعاً: تعزيز المقابلات بين الطفل والطرف غير الموجود بعد إنهاء فترتك من التعافي النفسي حتى لا تكون النتائج عكسية، لأن عدم التعافي يظهر للطفل على ملامح وجهك كل ما تكتمين. مثال: ترتيب يوم العائلة أو جعل الطفل يحكي عن المقابلات والخروجات التي كانت مع الطرف غير الموجود قبل المقابلة التالية، لإشعال حماسه، ويستمتع بذلك الوقت.
ثامناً: عدم ذكر أي سبب للانفصال للطفل، ولا يذكر أي طرف عيوب الطرف الآخر أو سيئاته أمام الطفل، والتركيز على نفسية الطفل فقط لأنكم الآن أبوان لا زوجان، ويجب أن تقوم علاقة الأبوين على الاحترام لمراعاة الطفل، لأنه لا يستطيع تحمل تلك الصدمات النفسية التي تؤدي إلى اضطرابات بدائية كأن يقضم أظافره، يتبول ليلاً، يصبح أكثر حساسية للمواقف، أن ينفصل وينطوي على ذاته، أن يخاف من مغادرة أحد للمنزل، ثم يؤدي بعد ذلك إلى أمراض نفسية أو اضطرابات في الشخصية لدى الطفل.
وفي الختام تذكروا أنني دائماً هنا لدعمكم لاستكمال طريقنا معاً إلى ما هو أقرب للسواء النفسي لك ولطفلك، فسلام على قلوبكم الرائعة الطيبة المحاربة والمؤمنة بالوصول إلى تربية جيل ينفع الأمم والأوطان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.