قرأتُ عن الديستوبيا (أدب المدينة الفاسدة) أكثر من مرة، شاهدتُ بعض مشاهدها، سمعت مناقشات حولها عدة مرات، لكن هذه المرة أنا أعاصرها بالبث المباشر، واقعة حقيقية مصوَّرة بكاميرا غير احترافية، وليست مصحوبة بموسيقى تصويرية حزينة، اللحن الوحيد الذي عُزف وقتَها كان الصمت المصاحب للصدمة.
نستيقظ على خبر مقتل فتاة جامعية بكلية الآداب في جامعة المنصورة على يد زميل لها، أصبح تداول أخبار التحرش بالنساء أو الأطفال شيئاً طبيعياً منذ زمن ليس بقصير، كم من الوقت تبقّى لنا حتى يصبح القتل أيضاً شيئاً اعتيادياً يمكن مشاهدته ثم تجاوزه وإكمال المهام اليومية؟ أي فساد يسير إليه العالم بخطى ثابتة؟
في كل صراع يدور بين النساء والرجال يُقاوم بعضُ الرجال بشراسةٍ مطالبَ النساء، ودائماً ما تُتهم النساء الحقوقيات إما بالإلحاد أو الجنون أو المبالغة أو المرض النفسي، وحين حاولتُ التفكير في: "من أين تبدأ المشكلة؟" وجدتُ أن الإجابة معقدة، لأنها حلقة مفرغة، تبدأ من التربية الخاطئة، والخطأ يقع على عاتق الآباء، فالآباء أنفسهم ضحايا لتربية آباء آخرين، فالأب قد يرى أن الحزم والقهر هما الطريقة الصحيحة لتربية البنات لحمايتهن من الانفلات، ويرى أن تشجيع الأبناء على فرض القوة والسيطرة على النساء في دائرة حياتهم هي الطريقة الصحيحة لتربية رجل هو ضحية أب آخر علّمه ذلك.
لذا ليس هناك حل لهذه المعضلة سوى كسر الحلقة، سوى أن يستفيق أب واحد وأم واحدة، باتخاذ قرار بأن قمع البنت وإرهابها ليس الطريقة الصحيحة، وأن الاستحقاق الذي يشب عليه الأولاد لن ينتج عنه راحة بال أو رجولة، لكن سينتج عنه فتاة قتيلة وشاب قتل لأنه رُفض.
بعض الرجال كآلهة
إن فكّرنا أن المشكلة تنتج من الضغط المجتمعي والأفكار المرسخة منذ عقود في اللاوعي الجمعي للشعب، الذي يدفع حتى الآباء والأمهات الذين قرروا كسر الحلقة واتباع طرق التربية السليمة إلى الانصياع لأفكار المجتمع، فإن الحل إذن هو سَن قوانين رادعة لهذه الأفكار، حيث إن النقاش لم يعد يؤتي ثماره، والتصريحات الدولية أو الفتاوى التي تخرج من دور الإفتاء لم تعد تلقى أي احترام أو تصديق من قبل الناس.
إذاً فمن لا يريد أن يصدق أن من حق النساء ألّا يُقتلن لأنهن أذنبن أو أخطأن أو رَفضن، حتى لو لأجل الرفض، فقط من دون إبداء أسباب، وأنه ليس من حق الرجال أن يَقتلوا فقط لأنهم وُلدوا بكرموسوم مختلف فلا يُصدّق، لكن فليعلم أن مصيره سيكون إلى السجن أو الإعدام.
من لا يريد أن يصدق أنه ليس من حقه تقرير مدى الألم الذي تشعر به النساء جراء التعرض لحادثة تحرش أو اغتصاب، أو أن من تقوم بنزع الشعر، وتنظيف أعضائها التناسلية وهي بنت، تفعل ذلك لأجل نظافتها الشخصية، وليس لأنها تُعدّ نفسَها لتكون مستعدة في أي وقت لتُرضي رغبة رجل غريب لا تعرفه، أو لأنها ستستمتع بأن يتم هتك عرضها من قِبل شخص يفرض سيطرته على جسدها بالقوة، فلا يُصدق، المهم أن يعرف أنه سيلقى عقابه. وأن العار سيلاحقه سواء أكان شاباً (كالزهر)، أو رجلاً (ولديه عائلة)، أو عجوزاً (لا يجوز إهانته بعد كل هذا العمر).
لم يعد هناك متسع لمزيد من النقاشات، لم يعد هناك متسع لمحاولة شرح أن من حق النساء أن يعشن حتى يصبحن جدات، وألا يُقتلن لأنهن رفضن رجلاً أو منحن جسدهن لآخر.
طفولة مشوّهة ومستقبل قاسٍ
تولد الفتيات وتكبرن في بيوت لا تعرف سوى الحزم وصدمات الطفولة، ويمكن لصدمات الطفولة التي لم يتم علاجها بطريقة صحيحة أن تقود الفتيات كذلك لدخول أوكار الثعابين، أو تعريض أنفسهن للخطر، لأن التروما الناتجة عن المعاملة الحازمة والقمع تقتل الثقة بالنفس، وينتج عنها أعراض مثل: تقبل الإهانة، السعي وراء جني حب الآخرين على حساب الذات، بناء وجهة النظر عن الذات بناءً على آراء الآخرين.
وعدم تقبل الذات الناتج عن هذه الصدمات يمكن أن يقود الفتاة لقبول أقل قدر من الود أو الحنان، والدخول في علاقة مع مريض نفسي أو نرجسي يستغل هذا الضعف ليزداد قوة، لذا فإنه مثلما على الجاني أن يخضع لعقاب يمكن أن يتبعه تأهيل نفسي للعودة إلى المجتمع بشكل صحي أكثر، فإن على المجني عليه كذلك ضمان الحصول على ملاذ آمن للعلاج، واللجوء إليه في حالة اكتشاف ما يمكن أن يسببه البيت من أمراض أو صدمات نفسية قاسية، هي التي تؤدي إلى اختياره إيذاء نفسه.
الفن رسالة أم تجربة أم نقل عن الواقع؟
وفي خضم جرائم عنيفة كهذه تتجدد دائماً هذه النقاشات حول ماهية الفن أو كيفية تصنيفه، فبعض المخرجين أو كُتاب السيناريو ينظرون للفن باعتباره تجربة، وغير مسؤول عن توصيل أي رسائل أو بث أي أفكار في عقل المشاهد، ربما يمكن أن يكون هذا صحيحاً، لكن كيف نفسر تأثر الشباب مثلاً بشخصيات مثل عبده موتة، وأفلام مثل حين ميسرة وأشباهها؟ كيف نفسر اجتياح قصات شعر عمرو دياب وقمصانه جموعَ الشباب في حفلات غنائه في التسعينات؟ إذن فالفن لا بد وأنه يحمل رسالة.
ربما يمكن اعتباره تجربة إن كان المجتمع أكثر أهلية لذلك، وإن كان أفراده يعرفون شيئاً عن التفكير النقدي وضرورة عدم التأثر بكل ما نراه، لكن حين نكون في مجتمع يحول التحرش اللفظي إلى نِكات؛ لأن الزعيم عادل إمام فعل ذلك في فيلم "مرجان أحمد مرجان"، ما يعني أنه لا مانع من تطبيقه، إذاً فإنه يمكن القول إنه يجب تأجيل اعتبار الفن كتجربة حتى يصبح المجتمع أكثر جاهزية لشيء كهذا.
لكن في الوقت الراهن نحن بحاجة لأفلام ودراما تعتبر الفن رسالة، وأن يتم صياغتها بشكل صحيح، وفي القالب الصحيح، لا أن يصاغ حق الفتاة في الرفض على هيئة أغنية مثل "علشان تبقي تقولي لأ"، ثم حين يتعرض المطرب للهجوم يخرج بتصريح بأن الأغنية هزلية، وتسخر من الرجال الذين لا يقبلون الرفض، وليس من النساء اللاتي يرفضن.
حتى لو لم تكن هذه الصياغة عن طريق الأشياء الأكثر انتشاراً مثل الأفلام الروائية، فالآن هناك طفرات تحدث في عالم الأفلام الوثائقية، ومنحها جانباً درامياً مثيراً للشغف تجاه مشاهدة هذا النوع من الأفلام. ويمكن ضرب مثال على هذا بأفلام وزارة التضامن الاجتماعي، وما قدمه مخرج مثل محمد دياب عن أمهات مصريات، أو مراكز الأحداث، أو مشروع تكافل وكرامة، يمكن حتى اعتبارها نقطة انطلاق لصياغة مشاكل الشارع المصري، وعن كيف وصل الحال إلى أن تُقتل الفتيات ذبحاً أمام باب الجامعة في وضح النهار!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.