طامتان كبيرتان يعيشهما الفكر السياسي الإسلامي، تجعلانه ضيقاً في آفاقه وتطلعاته، الطامة الأولى متعلقة بكون جزء من دارسيه نصبوا سهامهم البحثية والدراسية والاستنباطية نحو النصوص التي تنتصر لأطروحة فقه الغلبة السلطاني، وخلاصة ما أفضت إليه هذه الأطروحة التاريخية أن ليس في الإمكان أفضل من القبول بالاستبداد المتغلب بالقوة، وأن أي محاولة للتخلص منه ستجرّ على الأُمة الويلات، وأصحاب هذه الأطروحة ظلّوا يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وكتباً بعد كتب، وأعينهم كلها منصبة على "صفين" و"الجَمل" و"كربلاء" و"سيف الحجاج"، ومحنة الأصوات الحرة التي حوصرت، بينما أدواتهم في التأسيس لهذه الأطروحة مبنية أساساً على "الضرورة" التي ولدت شرعاً للاستثناء، فأضحت عندهم هي الأصل، وهي الباقية إلى يوم الدين ولن يستطيع أحد رفعها.
في حين غفلوا أن الضرورة مرتبطة بالإكراه، والإكراه حالة مقيدة زماناً ومكاناً وظروفاً، ومطلوب تجاوزها لأنها ليست نهاية التاريخ والجغرافيا والإنسان، ولأن الإكراه ضرر يفقد فيه الإنسان حريته في الاختيار وفي القرار، والضرر يُزال شرعاً، فإن السعي نحو رفعه مهمة شرعية وإنسانية بامتياز، وكلما كان السعي حثيثاً نحو رفعه توسّعت مساحة الحرية، وبالتالي كلما بدأت هذه الضرورة بالزوال، والسؤال هو ليس في الضرورة، بل في مدى السعي المصرّ نحو رفعها.
هذه الطامة الأولى هي التي أعطتنا فقهاء "يسبّحون بحمد السلطان"، وهم "مطمئنون لاستدلالاتهم ولموازناتهم الشرعية"، وهي التي قَتلت في طائفة من هذه الأمة كلَّ إرادةٍ للتحرُّر، وكلَّ أمل في امتلاك قرارها واختيارها، وهي التي صنعت لنا أحزابَ "زور وتعمية" هنا وهناك، ومؤسسات "دينية" تحت رعاية السلطان "الحافظ لدين الله وظِله في الأرض"، هنا وهناك وبمسميات مختلفة وبمضمون استبدادي واحد، وهي التي أعلت من أولوية وحدة الوطن والأمة على حساب عدل الحاكم وحرية المواطن، وهي التي جعلت طائفة من "نُخب" هذه الأمة تنهال باللوم الشديد للأمة، فهي المتواكلة، وهي التي لا يصلح لها سوى هذا النوع من الحكم المطاع.
الطامة الثانية متعلقة بكون جزء آخر من الدارسين للتراث السياسي الإسلامي لم يَروا في هذا التراث سوى النصوص التي تُفضي إلى التغلب، فأضحت فكرة استبدادية تغلبية، والتبست لديهم مفاهيم التحرر مع هذه النزعة التغلبية، وأضحت هذه المفاهيم لديهم تُناقض تماماً ما يعتبرونه واجباً شرعياً في "إعلاء كلمة الله وتحكيم شريعته"، ولو بهذا التغلب.
لقد أسَّسوا لتقابُل تعسفي قاتل بين إرادة الأمة و"حاكمية مفهوم معين للشريعة" ذاتها، وكان من نتائج ذلك أن ترسّخ لديهم الاقتناع بضرورة "حشد العدد والعدة"، من أجل تغليب فكرتهم المغلوطة بانتهاج نهج التغلب.
نتائج ذلك عشناها تاريخياً مع استقواء فئة بالدين وتغلبها على من سبقها، وفرض حكمها بعصبيتها من أجل "دينها"، وأمامنا الأُمويون والعباسيون هناك، والمرابطون والموحدون هنا وهلّم جراً، وعشناها وما زلنا نعيشها معاصراً مع طالبان وداعش والقاعدة وجماعة ولاية الفقيه.
ثمة طريق آخر وأمل آخر، من شأنه أن يضيء هذا الظلام، ظلام الاستبداد الذي شرعن له فقه الغلبة، وظلام الاستبداد الذي يأتي من فقه التغلب، ومن حقنا أن نعيش هذا الأمل، لأنه أمل من نور هذا الدين، الذي أظلم فهمه من تأخر عن تجديد أمره وتحرير هذا التراث، الذي خرجت منه نماذج أحزاب الزور والتعمية السلطانية وداعش وبوكو حرام والقاعدة والحوثيين وعصائب الحق.
إننا بحاجة إلى تأسيس فكري للتعاقد الذي له أصوله الدينية الثابتة، لأنه نقيض الإكراه، والإكراه ليس موجباً للمحاسبة، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بما أنه ينتج عنه كسب ليس اختيارياً، ولأن الرضا شرط في أي اختيار حر للدين أو للدنيا، والرضا ينتفي مع الإكراه، فلْنصنع هذا الأمل ولنُضِئْ مصابيح الهدى حقاً وفعلاً، فبالتأكيد لن يكون قدر الأمة محصوراً بين تيار تبرير الغلبة وتيار فرض التغلُّب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.