في الجلسات الخاصة، يقول كثير من رجال الأعمال المصريين إنهم قد أخرجوا أموالهم إلى بلدان خارجية لدواعٍ تتعلق بالأمن والأمان، خشية أن يتكرر معهم ما حدث مع غيرهم من استيلاء ومصادرة أموالهم، واختار كثير من هؤلاء خاصة التجار دبي لإيداع أموالهم، وعلى الجانب الآخر من الصورة كان للبنوك الإماراتية نصيب وافر في إقراض الحكومة المصرية وفي ترتيب قروض أخرى لها.
وهكذا تسبب عامل عدم الشعور بالأمان داخل مصر من جانب هؤلاء المستثمرين في إخراج أموالهم من مصر، وحرمان البلاد من إمكانية استثمار تلك الأموال محلياً، سواء في توسيع مشروعاتهم أو القيام بمشروعات جديدة، بما يعنيه ذلك من زيادة للمعروض من السلع والخدمات وهو ما يهدئ من موجات التضخم، وكذلك إتاحة المزيد من فرص العمل التي تهدئ من معدلات البطالة، وتزيد من عوامل الاستقرار الاجتماعي كما تزيد الطلب بالأسواق نتيجة الاستقرار بالأعمال.
بما يؤدي لاستمرار دوران الحركة بالأسواق، الأمر الذي يؤدي لاستمرار المبيعات واستمرار الاحتفاظ بالعمالة، وهكذا يتبين أثر عامل الثقة في استقرار الأسواق ونموها.
وعلى الجانب الآخر ما يسببه غياب الثقة من إحجام غالب المستثمرين المحليين عن القيام بتوسعات فما بالنا بالتفكير في القيام باستثمار جديد، وعندما ينظر المستثمر الأجنبي الى إحجام المستثمر المحلي فإنه لن يخاطر بالقدوم.
وتحتاج استعادة الثقة المفقودة حالياً إلى الكثير من الإجراءات، وإلى مدى زمني قد يطول لعدة سنوات حتى تتأكد تلك الثقة، فبينما تقول الحكومة المصرية إنها تجهز منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لوثيقة لتشجيع دور القطاع الخاص، فقد استمرت خلال الشهور الأخيرة في إجراءات التحفظ على أموال بعض الشركات، وفي حبس أصحاب شركات دونما سبب واضح، وفي الزج برجال أعمال من أنصار النظام للسجن بتهم لم تجد قناعة لدى الجمهور.
المنافسة العادلة في الضرائب والرسوم
بينما ترفع الحكومة شعار المنافسة العادلة بين الدولة والقطاع الخاص، ما زالت كل الشواهد العملية تشير لغياب تلك المنافسة العادلة، بداية من الباعة الصغار بالأسواق الذين تتم مصادرة بضائعهم والعربات التي يبيعون عليها والموازين، بينما يتم السماح بوقوف السيارات التابعة لكل من الجيش والشرطة لبيع السلع الغذائية في أي مكان ترغب فيه، بل والسماح بتواجد المنشآت التجارية التابعة لهما بالميادين والحدائق والشوارع الرئيسية بما يخالف التنسيق الحضاري والمظهر العام لتلك الأماكن.
ومؤخراً نشرت الصحف عن وجود مخالفات تتعلق بالمضمون الغذائي بمنتجات إحدى الشركات الخاصة، المنتجة لنوع من الشعرية التي أقبل عليها الشباب، وإلزام تلك الشركة بسحب كميات ضخمة من منتجاتها من الأسواق، ليتبين أن السبب في ذلك هو قيام إحدى الشركات التابعة للجيش بإنتاج نوع مشابه من الشعرية!
وهكذا فإن قدرة الحكومة على تنفيذ شعار المنافسة العادلة الذي رفعته مؤخراً مشكوك فيها من قبل القطاع الخاص، ومع ذلك فما زالت الفرصة لديها قائمة لإثبات جديتها، بإجراء تعديل تشريعي يلغى إعفاء الجهات التابعة للجيش من الضرائب، سواء ضريبة الدخل والقيمة المضافة والجمارك، طالما أنها تقوم بنشاط تجاري هادف للربح وليس لأنشطة متعلقة بالجوانب الدفاعية.
والقيام بإلزام المنافذ التابعة للجيش والداخلية بدفع إيجارات للأماكن التي تشغلها، ودفع تكاليف المرافق من مياه وكهرباء وصرف، لتحقيق المنافسة العادلة في التكلفة، والالتزامات بالمساحات المقررة لها دون تعدٍّ على الأرصفة والأماكن المجاورة، لعل مثل تلك القرارات تساهم في استعادة الثقة من جانب القطاع الخاص.
المكاسب المجتمعية أكبر من الجباية
أمر آخر مهم هو جعل هدف تشجيع الاستثمار بمثابة دستور عمل ملزم للحكومة، وللجهات التابعة لها بل ولكافة طوائف المجتمع، فالاستثمار هو السبيل للتشغيل وهو السبيل لزيادة السلع والخدمات وتقليل الواردات ولزيادة التصدير، والحصول على المزيد من العملات الأجنبية بما يساهم في استقرار سعر الصرف.
وتغيير النظرة الحكومية التي ترى أن ما يحققه القطاع الخاص من مكاسب يأتي على حساب الدولة، وهنا يروي الدكتور إبراهيم فوزي، الرئيس الأسبق لهيئة الاستثمار، أن أحد المصريين المالكين لشركة بإحدى الولايات الألمانية، كان قد اشترى أرض الشركة من حكومة الولاية بالتقسيط على عدة سنوات، وبعد دفع أقساط بعض السنوات جاءه خطاب من حكومة الولاية يفيد بإعفائه من باقي قيمة الأقساط، معللين ذلك بأنهم قد حسبوا قيمة تكلفة العمالة الألمانية التي وفر لها فرص عمل، وقيمة المنتجات التي وفرها للمجتمع وما دفعه من ضرائب، ووجدوا أن مجمل تلك المنافع المجتمعية تزيد عن قيمة باقي أقساط الأرض، ولهذا قرروا إعفاءه منها حتى يوجهها لتوسيع نشاطه الذي يمكن أن تزيد معه قيمة الضرائب التي سيدفعها.
ومن هنا يجب تغيير نظرة الجباية الحالية التي تتبعها الحكومة مع المستثمرين، حيث رفعت كافة الوزارات والهيئات الخدمية الحكومية أسعار خدماتها، وهذا بالطبع بخلاف الزيادات التي لحقت بأنواع الضرائب المتعددة وأسعار الوقود والأراضي وغيرها، لتخفيف الأعباء على المنتجين.
وهو فكر سبق أن طبقه الدكتور يوسف بطرس غالي عندما كان وزير المالية، قد ساعد في زيادة الحصيلة الضريبية وتقليل التهرب الضريبي، وإتاحة تلك الفوائض لدى المنتجين لتوجيهها إلى المزيد من التوسعات والتشغيل والإنتاج والتصدير.
الجودة الشاملة والقيمة المضافة
كما يجب أن تسود المجتمع مفاهيم معاصرة مثل المواصفات القياسية والجودة الشاملة والقيمة المضافة ونحو ذلك، فالالتزام بالمواصفات القياسية للمنتجات يساعد على المزيد من المبيعات والثقة بتلك المنتجات محلياً وخارجياً، ويزيد من التجارة الإلكترونية التي تتأثر سلبياً بما يسمى ثقافة "وش القفص" السائدة بالأسواق، بوضع أفضل الثمار أعلى القفص حتى تكون جاذبة للمستهلك وتدفعه للشراء، بينما يتم وضع الثمار الأقل جودة أسفل منها بحيث لا يراها المستهلك ويفاجأ بها عند الاستخدام للسلعة.
ويروي أحد رجال الأعمال قصة مصنع مصري للقمصان تعاقد على صفقة مع إحدى الشركات الأمريكية، وقامت الشركة المستوردة بإبلاغ الشركة المصرية عن مواصفات وقياسات العلب الورقية التي سيتم وضع ستة قمصان بكل منها، خلال تحميلها بالحاويات الناقلة لها إلى الولايات المتحدة، بحيث يتم تحميل عدد محدد من العلب بكل حاوية.
وذهب صاحب المصنع المصري بتلك القياسات لإحدى ورش تصنيع العبوات الورقية لتصنيعها بتلك المواصفات، وبالفعل قامت الورشة بتصنيع العلب لكن ارتفاع العلبة كان أكبر من القياس المطلوب بثلاثة سنتيمترات، وعند قيام المصنع المصري بتعبئة الحاويات بالعلب وجد أنه يحتاج عدداً أكبر من الحاويات، وبإبلاغه ذلك للمستورد، رد بأن هذا يزيد من تكلفة النقل مما يخل باقتصاديات تنافسية سعر القمصان بالسوق الأمريكية.
الأمر الذي أدى في النهاية إلى إلغاء الصفقة بسبب ذلك، وعندما ذهب صاحب المصنع لصاحب ورشة العلب الورقية يعاتبه، على أن عدم التزامه بالمواصفات كان سبباً في إلغاء الصفقة، كان رد صاحب الورشة عليه: "كنت أظنك ستشكرني على أنني لم أحاسبك على تكلفة الأطوال الزائدة في ارتفاع العلب!".
أما مفهوم الجودة الشاملة فعبر عنه رجل الأعمال صفوان ثابت المحبوس حالياً، بأنه عندما تنوي شركة أجنبية شراء بعض منتجاته المصنوعة من الألبان، فإنها لا تكتفي بالحضور لمقر الشركة أو بمعاينة المصانع المنتجة، وإنما ترسل مندوبيها إلى مزارع المواشي والأبقار التابعة لشركته، للتعرف عن قرب على ظروف معيشة تلك الحيوانات من حيث أماكن الإيواء ونوعية التغذية، ومظهر وصحة العاملين بتلك المزارع، ثم معاينة السيارات الحاملة للبن إلى المصانع ومدى صلاحيتها فنياً وغذائياً، ثم تفقد خطوط الإنتاج، ثم تفقد أسطول عربات التوزيع حتى تصل السلعة إلى متاجر التجزئة، بحيث تتأكد من توفر الجودة الشاملة بكافة مراحل الإنتاج.
الاستثمار بالعملات الرقمية لا يفيد المجتمع
وها هو مصنع لتصنيع القمصان قد اتفق على صفقة تصديرية، جلب لها خامات ممتازة وصناعاً مهرة وماكينات حديثة وعبوات وتغليفاً أنيقاً وجذاباً، وكان المصنع يتعامل مع شركة لإنتاج دبابيس الإبرة التي يتم استخدامها في عملية التغليف للقمصان، ومع تأخر وصول تلك الدبابيس قام المسؤول عن التغليف بالشراء لنفس المنتج من شركة أخرى لم تتم تجربة إنتاجها من قبل.
وخلال سفر الصفقة الطويل عبر البحار تسبب تفاعل العوامل الجوية مع نوعية معدن تصنيع الدبابيس، فظهر بعض الصدأ حول الدبابيس والذي انتقل إلى قماش القمصان، وظهور بقع صدأ حول الدبابيس، لتفسد الصفقة بسبب ذلك الصدأ، أو كما يقولون لتفسد الطبخة الفخمة لنقص قليل من الملح.
أما عن القيمة المضافة فهو مفهوم شائع منذ القدم بالورش الحرفية التي تحول الخامات إلى منتجات نهائية قابلة للاستخدام، مثلما يفعل النجار باستخدام الأخشاب وبعض المنتجات المساعدة كالمسامير والغراء والدهانات ونحو ذلك، لتصنيع حجرات النوم أو السفرة أو الصالون وغيرها، وكما يقوم الحلواني باستخدام الدقيق والسكر والزيت والسمن والمكسرات لصنع حلويات متعددة الأصناف.
ومن هنا يجب أن تهتم الاستثمارات الفردية والجماعية بأن تكون ذات قيمة مضافة، حتى تساهم في التشغيل وفي إتاحة منتجات يتم استهلاكها محلياً أو خارجياً، في حين نجد انتشار العديد من الاستثمارات التي ليس لها قيمة مضافة، مثل الاستثمار في العملات الرقمية الذي يحتوي على قدر كبير غير محدد بدقة من العملات الأجنبية، كذلك الاستثمار ببورصات الأوراق المالية الذي لا يضيف للناتج المحلي الإجمالي شيئاً.
بل إن الإيداع بالبنوك يعتبره البعض لا يمثل قيمة مضافة من قبل المودع، وحتى من قبل جهة الإيداع التي تشتري به أذوناً وسندات حكومية لسد عجز الموازنة، وينطبق ذلك على صناديق الاستثمار النقدية التي تستثمر أموالها في أوراق الدين الحكومي، وكذلك على مجالات السمسرة في الأراضي والعقارات والعُملات.
فإذا اهتم المجتمع بمثل تلك الثقافات زادت نسب الاكتفاء الذاتي من السلع وقلت نسب التضخم، وقل العجز المزمن بالميزان التجاري وخف الضغط على سعر الصرف، وإذا كانت تلك حلولاً مجتمعية تعد طويلة الأجل لكن ثمارها أكثر رسوخاً وأكثر إفادة للمجتمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.