قصة قصيرة.. طلقةٌ واحدة في الرأس!

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/17 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/17 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
طفل في العراق/ shutterstock

كان آخر ما قاله لزوجته قبل خروجه عند مغرب الشمس، بعد أن ضاق عليه النَّفَس: هذا ليس بيتاً، هذا حبس.

يبغي الخروج ليتمشى في الهواء الطلق طليقاً. هذا الطريق الطويل الذي طالما مشى فيه وشاهد معالمه تتغير إيذاناً بتغير الزمان. كل ما يريده الآن أن يمشي فحسب، دونما وجهة يتجه إليها.

يا قَدَميَّ سيرا بي بعيداً لأي مكانٍ.  

كان وقع الخبر عليه أليماً كضربة غادرة على أم رأسه من حاقدٍ لئيم. من حينها لم يسمع به أحد، لم يره بعدها أحد.

رغم مرور سنين طويلة بساعاتها وأيامها والشهور، إلا أنه لم يُعثر له على أي أثر.

عندما بُشّر بولادة ابنه البِكر أحسّ أن لحياته مغزى آخر، وملأ قلبه سعادة جديدة لم يألفها من قبل. أنعش قلبه حب آخر، ورأى حياته بطريقة أخرى. حنان لم يوجهه لأحدٍ من قبل، وحب مختلف نال من قلبه ما ناله.

بدأت الحياة تتجمل بكل كركرة من فم طفله الصغير، يحضنه ليداوي قلبه الموجوع. يداعبه ليعيد كرّة الكركرة من جديد ليضحك فتُكسَح سُحُب الغم المتلبد في صدره. يمطر من فمه ضَحكاتٍ لدى رؤيته قهقهة صغيرٍ يرى الحياة ضَحِكات.

يكبر الابن فيلتحق بالمدرسة. يشتري له لوازمها وملابسها وحقيبة زرقاء لكتبه. يواظب معه على إنجاز واجباته البيتية ويصحح له أخطاءه الإملائية، وكلما تقادم عمره واظب معه أيضاً على تصحيح أخطاء حياته اليومية. في كلتا المدرستين أخطاء فادحة وساذجة، فالمواظبة على تصحيحها مبكراً بأسلوبٍ مبتكر مرضٍ ومقنع للطرفين؛ (تربية). هكذا أقنع نفسه بنفسه.

يغضب عليه أحياناً لدى رعونة تصرفه أو قلة أدبه، وأحياناً يربت على كتفه وينهال عليه مادحاً لدى تصرفٍ جيدٍ وقولٍ حَسَن، وبجميع الأحوال يحبه حباً جماً كتمه بقلبه دون الإفصاح عنه بالقول كثيراً، فصفاء الروح حبٌ مكتوم.

كلما كبر ابنه أحسه يستقل عنه كثيراً، فلقاؤه معه أقل ومع أصدقائه أكثر. همومه يكتمها بقلبه أكثر ولا يبثها علانية بكل براءة وعفوية مثل ذي قبل.

هكذا هي الحياة؛ تعيشها لتكبر فتستقل بها لتنشأ حياة جديدة مثلما نشأ أبوك ومن قبله جدك وأجيال سبقت وأخرى ستلحق، وهكذا الحياة تدور شئت أم أبيت، أحببت ذلك أم كرهت.

طلب من أبيه أن يستريح؛ فالحمد لله؛ رِزقه من شغله الجديد جيد. لكن نظر الأب لابنه أنه ما زال ذلك الصغير، بالله عليك هلا تكركر ضاحكاً مرة أخرى ولو على نكتة أعرف أنها (بايخة)؟ يحدّث الأبُ بالكتمان قلبه.

عشق ابنه رائحة البيض المقلي بالدهن و(المحموس) بكوم بصل، يحبه كثيراً لدرجة أنه يستنشق رائحة القلي. كيف تُغري هكذا روحاً بسيطة قانعة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من خيرات الله في جنة عرضها السماوات والأرض؟ أو كيف تُغريه بعوائد فساد السلطة والمنصب والصفقات، وكل حبه في دنياه بضع بيضاتٍ وكوم بصل؟

ما عاد يحرق دمه مثل ذي قبل بتصرفاتٍ غير مهذبة تثير الحنق والعصبية، فها هو اليوم رجل محترم. سَرَحَ الأب محدثاً قلبه: (كم هم مساكين معاشر الآباء والأمهات! يحرقون قلوبهم ويكدرون مشاعرهم، وآخر الأمر يتعلم الابن من أخطائه ومن تجارب الحياة ربما أكثر مما تعلمه من حرص ونصح وغليان دم والديه). ابتسم في داخله، فلم تطاوعه عضلات وجهه لترسم ما يبدو أنه ملامح ابتسامة.

كيف تَسودُّ الدنيا في عينيك فجأة؟ كيف فجأة يصبح الهواء خانقاً؟ كيف تنسى الكلام؟ كيف يصبح الدمع وسيلة للكلام؟ كيف لا تعرف؟ كيف؟! 

ذات مساء طرق الباب عابر سبيل.

هل أنت أبو (فلان)؟

نعم يا ولدي أنا أبو (فلان)!

يا والدي، لقد قتلوا ابنك بكمينٍ لمسلحين على الطريق العام. أوقفوا سيارتهم التي تقلهم بعد انقضاء عملهم، ومن ثم أخذوهم في عمق الجانب الترابي الخالي للطريق، وأردوهم صرعى، واختفى القتلة. كل الذي أعرفه أنها كانت طلقة واحدة في الرأس. ستجدون جثته في ثلاجات حفظ الموتى في المستشفى العام. عذراً يا والدي؛ فلا عزاء لي إلا أن أعزيك وأنا أعلم أنه مهما عزيت لا ينفع العزاء، لكني أروم الذهاب لبيوت ضحايا آخرين أبلغهم الخبر ذاته عن البقية ممن قُتِلوا. في أمان الله.

ذهب ساعي بريد الموت لحاله دونما تفاصيل. مَن وكيل عزرائيل هذا؟! أمان الله؟! أي أمان لله في ذاك؟!

دخل الأب مذهولاً ساكتاً ليرى نظرات زوجته المقطبة الحاجبين كأنها عليمة. منذ الصباح وهي متوترة مضطربة. يا رب هل أوحيت لها كأم موسى من لدنك شيئاً؟ فلا شك أن عرفت بالخبر منك؟!

ها هي فقط تنتظر النطق لتأكيد الحُكم لا أكثر. قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

(قتلوا ابنك).

قالها بصوتٍ مكسور وعيناه تثبَّتتا بمحجريهما يابِسَتين لم ترمشا البتة، ومن ثم سَكَت.

غُصَّ بماء ريقه. فجأة نَسِيَ كيف يبلع ريقه. نَسِيَ كيف يتكلم أو يتقيأ. وفار التنور. تتفجر من غياهب صدره صيحة "آه" أحرقت يابس قلبه والأخضر وزرع السنين. صيحة ملأت فضاء البيت الخالي ضجة. صيحة كبرى قطّعَت الأنفاس، لتتفجر من يابس المحجرَين ينابيع الدموع.

صاحت زوجته صيحة أعلى، وزادتها صيحات وصيحات أكثر، مرددة أذان قدوم الموت: (الله أكبر). تلطم على رأسها وتخمش خديها. فتحت حجابها وأخذت تجر بعنفٍ شعرها. صيحات جذبت نسوة الحي، انضممن لها بالنحيب دون الصياح.

ما هذا الضجيج المزعج؟

في مجلس الفاتحة لبس قناع الصابر، قناعاً من جلدٍ دقيقٍ لستر المشاعر، قناعاً سرعان ما ترهل وهَزُل ليعريه أمام الملأ مفضوحاً. ها هو ذا عريان لا يعرف كيف يستر نفسه.

في عزلة الليل الطويل وسكون الظلام، أن يا رب الصباح، ما هذا الموت الطويل؟

أَبِكُل ليلٍ تقبضني ببطء؟ وفي النهار تبث في خراب الجسد روحاً مملة مهملة؟!  

بعد بضعة أيام، رحل المعزون وبقي الساهرون.

أمٌّ وحدها في المطبخ، وزوجة شابة في عش زوجية خَرِبَة، وأب في غرفة استقبال وحده.

لم يطق سماع بكاء البنت البِكر ذات الشهرين لابنه البِكر، وذهول أمها التي نسيت أن ثديها الصغير يدر الحليب على خد ابنتها لا فمها مذهولة شاردة. لم تنتبه لا لبكاء طفلتها، ولا لطلوع صدرها، بل لم تنتبه لوجود شبح الأب الناظر من عَتَبَة الباب المفتوح متفقداً حالها.

طرق الباب فانتبهت. نظرت إليه فأحنت رأسها وهزته ثم طأطأت. طأطأ رأسه هو الآخر، وأشاح بنظره وهمَّ منصرفاً.

تكلمت العيون بما لا طاقة للألسن بنطقه. لا تدفع الكلمات الضيم. لا يخفف الكرب الكلام. لا يحيق الوجع إلا بأهله. 

مضى مختنقاً بعبرته وحيداً. لا يعرف البكاء إلا وحيداً. تعثرت رجله بطرف سجادة حجرة الاستقبال، فوقع على الأرض وحيداً. من أثر الوقعة سالت من عينه دمعة، مسحها وأعان نفسه بنفسه فوقف. ضاق عليه النَفَس. طفحت رائحة الليل في الكون من جديد. نظر للسماء يرقب مغرب الشمس.

خرج ليتمشى تلقاء الأفق الأحمر البعيد نهاية الطريق.

من يومها لم يعد.. ولليوم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حيدر الوائلي
مدون عراقي
مدون عراقي
تحميل المزيد