زينة فتاة جميلة تعيش في بلدة صغيرة هادئة في الأردن، يغفو أهلها في سبات الأزمان الغابرة والمغبرة، ويتشبثون، فعلياً، بأسلوب حياة آبائهم وأجدادهم البسيط والمتواضع، ويتفادون قدر المستطاع الاحتكاك بمفاجآت وتطورات زمننا المجنون، والتبدلات السريعة للحياة العصرية في العاصمة عَمَّان.
عندما بلغت زينة الثالثة من عمرها، احتفلت عائلتها بعيد ميلادها في حديقة المنزل في ليلة صيفية مقمرة. كانت عمتها تعاملها، تقريباً، كإنسانة ناضجة لكونها الحفيدة الأولى، ولانبهارها بالشعاع الذي يضيء عينيها، والذي ينمّ عن وعيها المبكر جداً وذكائها المفرط، سألتها تلك الليلة: ماذا تريدين يا زينة أن تفعلي عندما تكبرين؟ فأجابت زينة بسرعة ودون أي تردد وهي توجه نظرها وسبابتها الصغيرة إلى القمر المضيء: أريد أن أذهب إلى القمر.
زينة، وهي تلعب وتمرح مع قطتها وتحوم حولها وتطير الفراشات والعصافير، تفاجأت بخبر بلوغها السن التي يجب أن تتحمل فيها مسؤولية ضمان الجنة، للنصف الآخر من مجتمعها، وصارت تفكر في مواضيع وأمور لم تخطر على بالها من قبل؛ لأنها كانت غارقة في بحر من البراءة والأحلام الوردية.
كانت الصدمة شديدة عليها، وأبت وقاومت القوانين التي تحد من حريتها ومغامراتها الطفولية الجميلة. فات الأوان، وأدركت زينة أن قيوداً غير مرئية وأبدية قد فرضت عليها، حتى إنها طالت أفكارها وأمانيها، ووقعت في هاوية من الحزن والوجوم واليأس، وأحست أن أحلامها الجميلة قد تبخرت، وأن بلوغ القمر أصبح مستحيلاً.
وقفت زينة مرة أخرى مع عمتها لتتحدث إليها تحت ضوء القمر، في عيد ميلادها الثامن عشر، لكن هذه المرة هي أقل طموحاً وأكثر تشتتاً. بادرتها عمتها بالسؤال وعلى وجهها ابتسامة باهتة، ما زلت يا زينة تأملين بالذهاب إلى القمر؟ فأجابتها زينة بصوت خافت، بالنفي. أشارت العمة لزينة بالجلوس بجانبها وقالت لها، سأسرد عليك قصة فتاة مصرية صغيرة عاشت في قرية ريفية صغيرة، مع عائلتها البسيطة المتواضعة قبل أكثر من مئة سنة.
تميزت هذه الفتاة بجمال ذكائها، الذي لا يكشف عن نفسه مرة واحدة؛ بل يأتي على دفعات، والذي أضفى عليها سحراً خاصاً. قرر والدها إرسال أخيها فقط للدراسة، لعدم قدرته على تحمّل الأعباء المالية الدراسية للطفلين، ولكن والدتها أصرت على ذهابها، فالتحقت الفتاة الصغيرة بكتاتيب القرية لتتعلم القراءة والكتابة، ثم انتقلت إلى مدرسة صغيرة في قرية مجاورة، وكانت تضطر للسير على الأقدام مسافة ثلاثة كيلومترات يومياً، حتى تصل المدرسة.
عندما بلغت سن الثانية عشرة، لبست فاطمة ثياب أخيها وغطت رأسها بالحطة والعقال، وأخذها والدها في جولاته في قرى الريف المصري؛ لتغني معه الأناشيد الدينية والموشحات في الموالد والأفراح. كان مرغماً، ورضخ للأمر الواقع، بعد اكتشافه أن فاطمة حفظت القرآن والأناشيد الدينية عن ظهر قلب، أثناء محاولاته الفاشلة لتعليم أخيها الغناء، وعلم أنها ستساهم في توفير دخل إضافي للأسرة التي كانت تعاني من الفقر والعوز. كانت شجاعة ولم تخَف عندما كانت تندلع المشاجرات المعتادة بين المدعوين، ويقال إن سكيراً قام مرة بتهديدها بالسلاح لتسمعه أغنيته المفضلة، ولكنها أصرت على عدم الرضوخ له، إلى أن قام بقية المدعوين بتجريده من سلاحه والسيطرة عليه.
سمعها ملحن كبير وهي تغني إحدى أغانيه في القطار، خلال جولاتها الغنائية في قرى الريف المصري. أقنع الملحن أباها بأن يرحل برفقة عائلته إلى القاهرة؛ لكي يتسنى لها الغناء في المسارح الكبرى في القاهرة.
انتقلت فاطمة إلى القاهرة مع عائلتها في عام 1922، لكن عندما بدأت في الغناء في قصور القاهرة ومسارحها، قررت استبدال أفراد عائلتها بفرقة موسيقية صغيرة كان أعضاؤها من الشباب الموهوبين، وهذا ما نقلها من مغنية شعبية إلى مطربة محترفة وعصرية. كانت فاطمة تصرف معظم عائداتها من الغناء على الدروس الموسيقية مع أساتذة خصوصيين في عزف العود وغناء الموشحات والتدريبات الصوتية؛ لأن النادي الموسيقي الشرقي في القاهرة لم يكن يقبل إناثاً في ذلك الوقت.
كان جمهورها من الطبقة الغنية في القاهرة يلقبونها بالبدوية؛ لأنها جاءت من الريف، ولباسها تقليدي، بعيد كل البعد عن الأزياء العصرية التي ترتديها النساء القاهريات. فكانت فاطمة تستعين بأخوات الشاعر أحمد رامي لتثقيفها في الحياة القاهرية، وأحمد رامي كان يناقشها بعد ذلك بمحتوى كتاب الشعر الذي أعطاه لها لتقرأه قبل أسبوعين.
حاولت إحدى منافساتها اللجوء إلى الصحافة لتشويه سمعتها بنشر الأكاذيب عنها ومحاولة السخرية من افتقارها لمقاييس الجمال العالية، خلال أربعينيات ذلك القرن؛ لكنها بدلاً من الهروب إلى بلدتها القديمة، واجهت الحملة بشجاعة، وأثبتت بذلك بطلان تلك الشائعات، وعزمها على ألا تترك النجاح الذي حققته في القاهرة بتلك السهولة، والنتيجة كانت زيادة شعبيتها بشكل كبير غير متوقع.
اشتعلت المنافسة بين فاطمة، التي صارت تُلقَّب بأم كلثوم، ونجوم الطرب في القاهرة آنذاك، مثل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهما. لكن جبروت الست في مواجهة الكبار وصل إلى درجات عالية جداً.
حاول الموسيقار محمد عبد الوهاب في العشرينيات أن يلحن لها ولو أغنية قصيرة (طقطوقة)، وقدمها لها، ولكنها رفضت غناءها، وأعطت المذهب للموسيقار محمد القصبجي، فلحنها، وقامت بغنائها. أما أغنية "سهران لوحدي" التي كتب كلماتها الشاعر أحمد رامي خصيصاً ليغنيها محمد عبد الوهاب، فضغطت عليه أم كلثوم، ليمنعها عن محمد عبد الوهاب وتغنيها هي.
استمرت المنافسة بينهما حتى منتصف الستينيات؛ حيث اجتمع الاثنان في مناسبة وطنية مع رئيس الجمهورية آنذاك، جمال عبد الناصر، فعبَّر عن رغبته في اشتراكهما في عمل فني واحد، وجاء اللقاء الكبير بينهما في عام 1964، بأغنية "أنت عمري" الرائعة.
أما الموسيقار فريد الأطرش فلم يكن محظوظاً مثل زميله محمد عبد الوهاب، وظل يتساءل بمرارة عن أسباب رفض أم كلثوم غناء ألحانه.
حتى المطرب عبد الحليم حافظ، الذي كان يمثل جيل الشباب في الستينيات، وكان معروفاً عنه أنه مقاتل لا يقل شراسة عن أم كلثوم، اضطر لتقبيل يدها اعتذاراً، بعد أن أغضبها في تعليق له، لانتهائها من الغناء بعد الوقت المحدد لها بكثير، وكان المفروض أن يختم الحفل، ورفض عبد الحليم في البداية الاعتذار لها، فمنع من الغناء في أعياد الثورة المصرية لمدة ثلاث سنوات.
كان عشاقها كثراً، كحسادها، ونجحت في قهر قلوب الكثير من الرجال، ورغم ذلك، أخلصوا لها. القصبجي، أول مَن لحَّن لها العديد من أغانيها الجميلة، مثل "رق الحبيب"، ولكن عند ظهور الموسيقار رياض السنباطي، تخلت عن القصبجي، ورغم موهبته الفذة، ظل عواداً في فرقتها الموسيقة، ليكون قريباً منها، واستمر حبه لها حتى الممات. أما الشاعر الكبير أحمد رامي، الذي كتب لها أجمل أشعاره، فظل محتفظاً بحبها في قلبه، وبصورتها في غرفة نومه رغم زواجه. حتى خال الملك فاروق، الباشا شريف صبري، تحدى أسرته المالكة وحاول الزواج منها. كتب فيها أمير الشعراء أحمد شوقي، قصيدة اسمها "سلوا كؤوس الطلا"، عندما سمع غناءها لأول مرة، في قصر أحد النبلاء في القاهرة، ولحَّنها الموسيقار رياض السنباطي، وقامت بغنائها بعد وفاة الشاعر العظيم.
عند وفاتها في الثالث من فبراير/شباط عام 1975، خرج أكثر من مليون مصري ومصرية إلى ميدان التحرير لوداعها، وانهمرت دموعهم خلال مراسم الجنازة المهيبة.
ثم قالت العمة: ما أريد أن أقوله يا زينة، إنه يجب أن تكوني قوية وطموحة مثل أم كلثوم، وكيف أن هذه الفتاة المصرية الرقيقة، ذات الإحساس المرهف، تحولت إلى أسطورة الغناء العربي، وملهمة للمبدعين من الشعراء والملحنين، وتأثيرها الثوري على الحركة النسائية العربية واضح ليومنا هذا، حتى إن الاتحاد الفلكي الدولي، قام في عام 2015، بتسمية أحد براكين كوكب عطارد، بكلثوم، تكريماً وتقديراً لها.
ابتسمت زينة، لأول مرة ذلك المساء، وقالت لعمتها: أظن أنني سأغير وجهتي، من القمر إلى عطارد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.