أحلم بـ بابا كثيراً. مرة حلمت أننا نركب قطاراً ما وأننا نجلس جنباً إلى جنب على أريكة تواجه الباب. تأتي محطة ما فأخرج وحدي بينما يظل هو جالساً ينظر لي مبتسماً في استسلام. أحثّه على النهوض لكنه لا يُبدي أي علامات للاستجابة. يسير القطار به. وتوقظني خالتي بسبب صوت البكاء المكتوم. أخبرها أني حلمت حلماً سيئاً وأنا أبكي.. أخبرها أنها ليست المرة الأولى التي أحلم فيها بشيء كهذا يدور حول بابا، وأني أشعر أنه ليس بخير وأريد محادثته هاتفياً، الثالثة فجراً ليس ميعاداً مناسباً للاطمئنان على أحد.
تقول لي أن أقص عليها تفاصيل الحلم حتى تخبرني بتفسيره وتحاول طمأنتي. حين أخبرها أن القطار يتحرك تصمت. فأعتبرها إشارة على أن بابا سيموت. وأهرع إلى الهاتف وأنا أبكي. بعد عام ونصف من تلك الواقعة حيث ظل بابا بصحة جيدة، وحيث أقرر أخيراً الكف عن تصديق الأحلام، الجيدة منها قبل السيئة. ما زلت لم أكف عن التساؤل.. لماذا تركنا بابا؟
الآباء كأشباح
في فيلم "برة المنهج" الذي أخرجه عمرو سلامة وكتبه عمرو سلامة وخالد دياب يجسد الفنان ماجد الكدواني صورة شبح. ثيمة قديمة يمكن أن نكون قد شاهدناها من قبل، أنا مثلاً أول ما تذكرته حين بدأت مشاهدة الفيلم كان فيلم الرسوم المتحركة الأجنبي "الوحش" الذي يحكي قصة رجل عجوز يرهب الأطفال ويمنعهم من اللعب أمام منزله، لنكتشف مع تطور الأحداث أنه ليس هو المرعب وأنه لا يريد طرد الأطفال لكنه يفعل ذلك خوفاً عليهم من شبح امرأته الغاضب. لم يكن هو الشبح لكن زوجته. في "برة المنهج" يجسّد الكدواني نفسه الشبح. ونكتشف مع تطور الأحداث أن اختياره للانزواء في هذا البيت القديم المواجه لمدرستين متلاصقتين للبنين والبنات هو بسبب خوفه من أن يتسبب بالعار لابنته.
في خيط آخر من الحكاية هناك الطفل عمر شريف في دور نور المشهور في المدرسة بـ"عماشة" بسبب ارتدائه لنظارة لا تتناسب والخلل في بصره، فلا يبصر جيداً ما يمكن أن يكون على مدّ نظره. نور الذي يحاول أن يجذب انتباه حبيبته سهام حتى لو كان هذا يعني أن يوقع نفسه في المتاعب. نور الذي سنعرف عن طريقه حكاية الشبح "المراكبي"، ثم نكتشف المفارقة بأن الطفل نفسه هجره أبوه. وكرد فعل قرر أن يعتبره شبحاً لأنه لا يعيش معه وقرر تركه لخالته.
يمكن أن نعتبر الفيلم يسير على ثلاثة خطوط متوازية؛ الخط التاريخي الذي يحاول أن يوصل المخرج عن طريقه رسالة أن ليس أشهر الروايات في الوقائع التاريخية هي دائماً الصحيحة. والخيط الذي يتحدث فيه عن علاقة الأبوة والبنوة. والخيط الذي يشير إلى الخرافة التي تتسبب الصدفة وحدها في تحويلها إلى حقيقة.
وفي رأيي، فإن أهم خط والذي أعتبره صلب القصة بالنسبة لي هو حكاية الكدواني وأبنائه. ربما لأننا طوال الوقت نعرف أكثر عن وجهة نظر الأبناء. من يشتكي دائماً ومن تبرز أصواتهم في القصة هم الأبناء. وفي الفيلم نحن نركز على معاناة الأب الذي يخاف أن يكون بجانب ابنته حتى لا يتسبب لها في الشعور بالعار من أبيها المذيع الذي أتقن الكذب للتخفيف عن الناس ثم تمادى فروَّج لإشاعة كاذبة ليخفف وطأة الهزيمة في الحرب على المستمعين بينما كان جيشنا في الحقيقة يُهزم. فيتم تحويله إلى التحقيق ويفقد على إثر ذلك وظيفته.
ربما لم نعرف الأسباب التي دفعت الأب إبراهيم للتخلي عن ابنه، لكننا على الأقل نعرف أن الآباء أيضاً أناس لديهم مشاعر ومخاوف. ربما يكونون مخطئين في مخاوفهم لكن حتى في ذلك كالجميع. أنا أخاف كثيراً وكثيراً ما تكون مخاوفي ليست سوى خيالات حمقاء في رأسي.
كثيراً ما لُمت بابا على تركه لنا ورغبته في الابتعاد بحياته بعد الطلاق، كثيراً ما تساءلت عن السبب واستنكرت عليه أفعاله، حتى إنني قررت أن أكتب رواية كاملة للحديث عن الأمر، لديّ الكثير من التفاصيل كذلك التي يمكن أن تبني رواية تراجيدية مناسبة لأوقات كئيبة. ربما أتلف عليَّ الفيلم فكرة رواية الآن. لكنه دفعني للتفكير في أشياء أخرى تصلح لكتابة مقال جيد.
برة المنهج.. خارج السرب فعلاً
لا نرى الكثير من الأفلام في السينما المصرية التي تحاول نشر ثقافة الأخلاق الحميدة، أو ما يمكن أن نطلق عليه أفلام العائلة؛ لذا يعتبر "برة المنهج" فريداً من نوعه، ففي الفيلم يأخذنا المخرج في لقطات فانتازية للتحدث عن زعماء التاريخ، يأخذ من كل قصة عبرة ليعلم الطفل نور شيئاً ما يطبقه كي يكسب احترام أصدقائه ومعلميه وكي يكون شجاعاً كفاية كي يعترف لحبيبته بإعجابه. وربما بعد نجاح الفيلم ينتبه المخرجون أن المجتمع ملّ الثيمات المتكررة للتحدث عن البلطجة والعنف والسباب والبذاءة.
لم يناقش الفيلم بوضوح الخيط الدرامي للخرافة التي تسبب الصدفة في تحويلها لحقيقة. لكنه بلور القضية كلها بشكل جيد في المشهد الذي خرج فيه نور ليحلف لهم أنه لا شبح في البيت المهجور وأنه إنسي مثله مثلهم لكن لا أحد يصدقه لأنه وعن طريق الصدفة تحدث الأمور التي طلب منه الأصدقاء التوسط فيها لدى الشبح كي تتحقق. وربما حتى نهاية القصة سيكون هناك آخرون يرفضون تصديق عدم وجود الشبح مثل أخت سهام التي تظن أن قطعة من وشاح المراكبي تسببت في حملها بطفلها.
في نهاية الفيلم يترك لنا المخرج نهاية حزينة وربما قابلة للتأويل بأكثر من طريقة؛ إذ إنه لا سبب واضحاً للتسبب في موت نور، هل كي تكتمل الحبكة الدائرية من وجود إنسان يختار بإرادته أن يكون شبحاً، وتحول إنسان بغير إرادته إلى ذكرى شبحية؟ هل لإبراز فكرة أن نور هو أيضاً سينضم إلى شجعان التاريخ؟ أم لإبراز فكرة أخرى؟ لماذا يموت نور؟
لكن أسوأ ما في الفيلم من وجهة نظري هو الموسيقى التصويرية التي كتبها الموسيقار الكبير راجح داوود. التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل من موسيقى رائعته الكيت كات والتي لا تتناسب وطبيعة "برة المنهج". الأفكار التي يريد الفيلم عرضها واضحة، ليست فلسفية غامضة. لا يمكن مثلاً مقارنتها بفلسفة فيلم الكيت كات أو رسائل البحر حتى تحصل على نفس ثيمة الموسيقى لهذه الأفلام. ربما كان من الأفضل أن يحصل الفيلم على إيقاع موسيقى أكثر سرعة وأقل عمقاً حتى تتناسب والطابع الساخر لسرد الحكاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.