رغم أني لا أُحبذ الأعمال المنزلية اليومية، وهي ثقيلة على قلبي، مع كوني أؤديها، فإن الكتابة عنها تحليها وتسكرها بسكر طيب المذاق، بشكل يستهوي تلك التي تُكره عليها. ففي الكتابة عن الأعمال المنزلية أرى جمال الكُتّاب حين يجمّلون ما هو عادي، بل وروتيني أيضاً، ويُبدعون في النسج والغزل، في التنظيف والكيّ والطبخ وغسل الملابس وقَمّ المنزل.
قَمّ المنزل.. مريمة تحديداً وثلاثية غرناطة سبب لفت نظري لحب الأعمال المنزلية المكتوبة، والمطبقة، وحب رضوى عاشور، رضوى عاشور الكاتبة التي أثرت قلبي بحكايات الحب المريد بينها وبين مريد، وكذلك ثقلها الكبير في عالم الكتابة، وهو الثقل الذي أصبو إليه حتى يومي الحالي.
فأنا أتمنى أن أستيقظ يوماً كرضوى، سيدة ثقيلة الميزان والكلام، تمتلك المكانة والعلا والعلم، ولها قلب رهف يدعو بسلام، ولكني في اليوم ذاته أريد أن أنام كمريمة "شخصية رضوى الأولى من وجهة نظري"، سيدة بسيطة تقوم بالمهام المنزلية ذات روتين لذيذ، رغم تكراره فإنه هو السلام في ذاته، حكاية تناقض مليء ومرير، بين رغبة المرأة في حب الذات القوية، وحب الكنف الضعيف. المرأة مزيج كل تناقض في العالم، وأنا بالذات مزيج كل غريب في الدنيا.
حكاية مريمة الفواحة بالخُزامى المعطر
في الواقع والعالم والموقع الجغرافي، غلبت مريمة البسيطة كباح التفرد والعلا في ذاتي، وفازت مهام المنزل على تجمعات العمل وبحوث العلم، وأصبح قَمّ منزلنا خيراً من الدنيا وما فيها.. دعوني هنا أعرفكم بالصديقة العزيزة مريمة، حتى تساعدكم مثلما ساعدتني في حب الروتين المنزلي.
مريمة هي إحدى أبطال ثلاثية غرناطة، رواية تخص رضوى عاشور، الكاتبة المصرية. ولا غرابة في أن مريمة شخصية افتراضية، دعونا نتفق على ذلك أولاً.
مريمة امرأة بسيطة عاشت وماتت تنتظر الفرج عن غرناطة ولم يحدث هذا، عانت وداع كل أحبتها المفجع، ولاقت مصيرها بالموت، هاربةً بدينها، ودُفِنت في النهاية بالعراء مكسوة بالخيبة والمذلة والحزن.
هذا تلخيص مريمة، الشخصية الرئيسية الأولى في الرواية، والتي فازت في أحلامي على مَن خلقتها وسجلتها على الورق. مريمة التي أحبها، والتي تفنَّنت رضوى عاشور في كتابتها، وجعلتني أتخذها رفيقة وأختاً في منزلنا، لنا فيها كل الحديث القادم والطويل.
مسكين مَن لم يتذوق كعك مريمة الطيب
تُعد الكعك وتبيعه، هذه مهنتها الصباحية، تستيقظ لتعد كعكاً شهياً، وتسره في سلتها وتذهب للسوق لتبيعه، وتعود بمال يعولها ومَن معها من رجال غلبتهم الدنيا.
أعرف أن كعكها لذيذ.
وأنتم سوف تعرفون ذلك أيضاً.
لتعود تسقي الزرع وتقم الأرض، تكنسها ثم ترطبها بقليل من الماء، ثم تعطر الملابس بعد طيها برائحة الخزامى المركزة، وتذهب لتعد الطعام، زيت وخل وزيتون، وإن كانت الحالة ميسورة فتينٌ مجفف معها، وبالطبع خبز، وتنتظر عند مدخل المنزل بعد ذلك لتحكي مع النساء الأخريات عن مستجدات الوضع في غرناطة، وكيف راوغت الإنجليز اليوم حتى لا يعلموا شيئاً عن بقائها مسلمة هي وأهل بيتها، بطرق فكاهية ينشق صدغك فيها من كثرة الضحك.
هذا يوم مريمة، بسيط ومليء بالمهام الروتينية البسيطة، التي تعدها امرأة عادية كل يوم، وكل العمر، دون أن تكلَّ أو تملَّ أو تتعرض للاكتئاب والتذمر وضيق النفس والحال والنكد.
بعد أن تعرّفت على مريمة من قراءتي للثلاثية أصبحت أحب الأعمال المنزلية بعض الشيء، وأستدعي مريمة معي في كل مرة أقوم بمهام المنزل، فأسعد وأمرح كثيراً معها.
خاصة عند قَمِّ المنزل، فأنا وقتها أتبع سلك مريمة في أداء هذا العمل، فهي تدندن بعض أناشيد أبيها، وتتمايل عليها كأنها فراشة تتناغم في هواء طلق بين الورود، فأستشعر كل ذلك، وتزداد الحماسة أكثر وأكثر فأقُمّ منزلنا بسعادة، وإن كان قمّ مريمة يختلف، فقمّنا يعني الكنس والمسح واستخدام أدوات تنظيف أكثر، مكنسة وممسحة ومنظف أرضية وديتول للجراثيم وكحول ومعطرات.
المرأة القوية
هناك مثل شعبي يدفع كل حماة لتكره زوجة ابنها مسبقاً، وهو ينص على "ربي يا خايبة للغايبة"، وكأن الغائبة تلك لص سوف يسرق تعب أعوامك بلا مقابل، لذا مريمة كزوجة ابن أم زوجها "حسن" عانت أشد العناء من حماتها، التي نبذتها بكل النبذ، وعلقت دوماً على سوء عملها المنزلي، لترحل الحماة وتترك خلفها مريمة ترعى ابنها وهو متقاعد، تستبدل ثيابه التي بال عليها، ثم تقوم بتطهيره وتنظيفه، وفوق هذا تتحمل أعباء كلماته غير الرشيدة لذهاب عقله.
كانت تستيقظ صباحاً ترعى الأولاد، وتعد لهم الزاد، وترعى زوجها وأخته المشغولة بعالم الكتب، وترعى شؤون ابتسامات نساء الحي، وطرائفها المعتادة حول مراوغة القشتاليين، والسخرية منهم، والدعاء عليهم، وانتظار غرناطة القديمة لتعود.
لو حدثتني عن مريمة لأخبرتك أنها امرأة ينطبق عليها لقب الحزينة الصلبة التي تحاول أن تفرح، فهي بعد أن كانت ابنة المنشد الجلي، صاحب المدد لرسول الله، تتحول لزوجة لحسن الخطاط، الذي ضاعت مهنته مع مهن الكثير لعودتها لأصول عربية، فأصبح زوجها بين عشية وضحاها رجلاً بلا دخل يؤويه ويؤوي أسرته، حتى تمكّن في النهاية من السعي لعمل آخر يخالف مهنة الخطاط العربية، التي هي بلا فائدة في بلد حُظر فيه استخدام تلك اللغة العربية.
ومن بعد ذلك فقدت مريمة أباها، وتلته أمها، وإخوتها، لخرقهم القوانين بتشييع جثمان والدها بالطريقة الإسلامية، وإقامة مأتم يُتلى فيه القرآن عليه. ويتزامن ذلك مع فقد سليمة أيضاً، ثم عائشة، وابنها، وتسرح البنات الخمس للزواج ببلاد تبعدها بكثير فلا تراهم ثانياً، فلا يتبقى لها سوى القلة القليلة. وتلك القلة القليلة هي المتقاعد والصغير علي.
لا تختلف تلك المرأة عن ألوف غيرها في عصر الأندلس العربية، وغرناطة الإسلامية، فهي نسخة للجميع، عاصروا ما عاصرت، وفقدوا ما فقدت، وحتى فعلوا الأعمال المنزلية نفسها.
وربما بالقرب منا، وعلى حدود قريبة جداً من بلادنا تتواجد ألوف مؤلفة من نساء مثل السيدة مريمة، عظيمات أيضاً، ويواجهن الحرب والمخاوف، ويؤدين الأعمال المنزلية رغم القصف والصواعق.
لعنة الله على الحرب، ولعنة الله على مفتعلي الحرب، والخيبة على كل من يوسوس إلى السيدات العفيفات، صاحبات عروش منازلهن بأنهن لا يصنعن شيئاً قيماً، وأنهن ينهين حياتهن في اللاشيء. فالمرأة المستقلة هي التي استقلت ببيت ومنزل وأطفال، وأحسنت لهم، وأعطت عمرها وحبها لهم.
لماذا مريمة؟ لماذا غرناطة؟
رغم بساطة حياة مريمة فإنها استهوتني، وغلب على نفسي غرامها في تحقيق الذات، وأقنعتني بأن الجمال الحقيقي المصلوب في النساء ينبع من منازلهن، فإن صلح المنزل صلحت معه سائر الدنيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.