إن تفاقم أزمة الغذاء العالمية بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا سيجعل العالم يتدارك أن هذه الحرب كارثة عالمية، وليست أزمة أمنية في شرق أوروبا، فقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى أزمة إنسانية كبيرة، ليس فقط في أوكرانيا، ولكن في جميع أنحاء العالم؛ نظراً لأهمية المنطقة، باعتبارها السلة الرئيسية للخبز في العالم، بالإضافة لسلع استراتيجية أخرى مثل زيت دوار الشمس، فأصبحت الحرب سبباً في حدوث نقص كبير وصدمات في الأسعار، والأسوأ من ذلك أن روسيا مُنتِج رئيسي للأسمدة والطاقة اللازمة لعمليات الإنتاج الزراعي.
فوفقاً للبنك الدولي فإن أسعار الغذاء العالمية في طريقها للارتفاع بنسبة 23% هذا العام، بعد أن ارتفعت بنسبة 31% في عام 2021، كما أن تكلفة المدخلات والوقود اللازم لإنتاج ونقل المواد الغذائية التي سيحتاجها العالم غداً هي أيضاً مرشحة للارتفاع، والنتيجة ضائقة فورية واحتمال انخفاض غلة المزارع لمدة أربع سنوات قادمة.
كما ارتفع مؤشر أسعار السلع الغذائية وفقاً لتقارير للبنك الدولي، حيث وصل لمستوى قياسي من حيث القيمة الاسمية، خلال الفترة من مارس/آذار إلى أبريل/نيسان 2022، بنسبة 15% وأكثر من 80% مقارنة بنفس التوقيت قبل عامين، فتصدرت الزيادة منتجات القمح والعديد من زيوت الطعام.
ومن المتوقع أن يزداد التشديد على سوق القمح والذرة العالمية في 2022-2023، حيث من المتوقع أن تنخفض إمدادات القمح العالمية بالإضافة إلى الإنتاج بنسبة 1.5%، وهو التراجع الثاني على التوالي الذي يعكس انخفاض إنتاج القمح المتوقع في الأرجنتين وأستراليا وأوكرانيا، ومن المتوقع أيضاً أن تتقلص إمدادات الذرة بسبب انخفاض الإمدادات في كل من أوكرانيا والولايات المتحدة.
هل سيتعرض العالم لمجاعة حقاً؟!
سكان العالم يعتمدون على أكثر من 40% من السعرات الحرارية من ثلاثة محاصيل فقط "القمح والذرة والأرز"، ويتركز الإنتاج الكبير لهذه الحبوب في مناطق قليلة فقط، ويهيمن عدد قليل من الدول الكبرى على هذه المنتجات، وبسبب هذا المستوى العالي من التركيز يمكن أن تسبب أي اضطرابات دولية في أي منطقة حرجة منتجة لهذه المحاصيل آثاراً مدمرة في جميع أنحاء العالم، كما سيعاني العديد من البلدان الأكثر تعرضاً لأعباء اقتصادية وديون مرتفعة، التي تعاني من شح مائي، من التأثر بهذه الاضطرابات، بسبب اعتمادها بشكل رئيسي على استيراد هذه المحاصيل من الخارج، مثل العديد من دول المنطقة العربية.
وتشير الإحصاءات إلى أن الأزمة الغذائية العالمية قد يعاني بسببها ما يُقدر بنحو 1.7 مليار شخص، معظمهم في الاقتصادات النامية، بسبب المستويات الشديدة من انعدام الأمن الغذائي وأسعار الطاقة، بالإضافة لأعباء الديون الخارجية التي لها تأثيرها المباشر في عدم القدرة على استيراد هذه المحاصيل بأسعار متزايدة، وفقاً لفريق عمل الأمم المتحدة لمجموعة الاستجابة للأزمات العالمية، وستكون الآثار محسوسة بشكل غير متناسب، وسيتأثر معظم سكان البلدان التي يشكل الغذاء فيها أقل من 10% من إنفاق المستهلكين (مثل الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة)، بشكل متواضع، بارتفاع أسعار المواد الغذائية، لكن الآثار ستكون أكثر قسوة في العديد من البلدان حول العالم، حيث يشكل الغذاء أكثر من 40% من إنفاق المستهلكين، بما في ذلك باكستان وغواتيمالا وكينيا ونيجيريا، على سبيل المثال لا الحصر، وللفئات السكانية الأكثر ضعفاً في كل بلد.
إن أزمة الغذاء العالمية القادمة لا تتعلق بعدم قدرة العالم على إنتاج ما يكفي من الغذاء، لكن الأزمة متعلقة بعدم قدرة الأنظمة الغذائية على تخزين وتوزيع ما يكفي من الغذاء والمدخلات اللازمة لإنتاجه بشكل آمن وعادل، في مواجهة الاضطراب الذي سببته الحرب الروسية الأوكرانية.
تأثير الحرب الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي
بدأت الحرب في أوكرانيا منذ ثلاثة أشهر، لكن آثارها السلبية على أنظمة الغذاء العالمية التي ظهرت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأسمدة كانت سريعة، مقارنةً بالأزمة الاقتصادية التي سببتها جائحة كورونا، ورغم اختلاف الأسباب المباشرة لكل أزمة فإن هذه هي ثالث أزمة غذائية كبرى واجهها العالم في العقدين الماضيين، الأولى كانت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في 2007-2008، والثانية في عامي 2010-2011، والثالثة عام 2022، وهناك عدة عوامل تكمن وراء الأزمات الثلاث، بما في ذلك نقص الاستثمار في أنظمة الغذاء المحلية من قبل الحكومات والقطاع الخاص، والافتقار إلى التنوع والمرونة اللازمة والاستجابة السريعة للصدمات المتعلقة بالطقس ونقص المياه أو اضطراب السوق أو الصراعات الجيوسياسية، ومع ذلك يمكن أن تكون الأزمة الحالية أكثر كارثية من تلك التي سبقتها لعدة أسباب:
1- أن الإمداد بالغذاء المتاح لجزء كبير من العالم في الغالب الحبوب وزيوت الطعام، والتي تعتبر من المواد الغذائية الأساسية في جميع أنحاء العالم آخذ في الانخفاض، حيث توفر روسيا وأوكرانيا معاً حوالي 12% من إجمالي السعرات الحرارية الغذائية المتداولة حول العالم، وكلاهما مصدر مهم للسلع الأساسية مثل القمح 28% من التجارة العالمية وزيت عباد الشمس 69%، ويشتري برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة من أوكرانيا نصف القمح الذي يوزعه حول العالم، والأمر الأكثر إثارة للقلق مع تراجع الصادرات من هذه البلدان أن أعلنت دول أخرى مصدرة للأغذية عن فرض حظر على التصدير أو قيود الترخيص المصممة لحماية مخزوناتها الغذائية، على سبيل المثال قامت إندونيسيا مؤخراً، التي تنتج ما يقرب من 60% من إمدادات زيت النخيل العالمية بحظر جميع صادرات منتجات زيت النخيل، كما أعلنت الهند أيضاً قيوداً صارمة على تصدير القمح.
ونتيجة لذلك ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، ليس فقط للأغذية، ولكن للأسمدة والوقود أيضاً، وبلغ متوسط مؤشر الفاو لأسعار الغذاء 158.5 نقطة، في أبريل/نيسان 2022، بزيادة 30% عن قيمته بنفس الشهر من العام الماضي، هذه الزيادات التي تفوق معدلات التضخم في معظم البلدان تقلل بشكل كبير من القوة الشرائية للأسر، وخاصة بالنسبة للفئات السكانية الأكثر ضعفاً، والتي عادة ما تنفق الجزء الأكبر من دخل الأسرة على الغذاء.
2- زيادة تكلفة المدخلات الزراعية الرئيسية، ولا سيما الأسمدة والوقود على سبيل المثال، فتجاوز سعر اليوريا في البحر الأسود، أحد مكونات الأسمدة الرئيسية، 900 دولار للطن في مارس/آذار 2022، ارتفاعاً من 350 دولاراً للطن في مارس/آذار 2021، بسبب مجموعة من العقوبات واضطرابات النقل، وارتفاع أسعار الأسمدة يعني أنه يجب على المزارعين في كل من البلدان المستوردة الصافية والبلدان المصدرة الصافية مراجعة خططهم في زراعة محاصيل أقل، وزراعة محاصيل مختلفة ذات متطلبات أقل من الأسمدة، أو الزراعة بدون أسمدة تماماً، وكل ذلك يمكن أن يضر بسلسلة التوريد الغذائية العالمية، لأن حوالي نصف سكان العالم يعتمدون على المنتجات الغذائية التي تستخدم الأسمدة، يمكن أن يؤثر انخفاض إمدادات الأسمدة بشدة على السكان المعرضين لمدة تصل إلى أربع سنوات، إذا لم يتم اتخاذ إجراء فوري لزيادة الإمدادات، وستصل الآثار المتتالية للاضطرابات في سلسلة توريد الأسمدة إلى المستهلكين في جميع أنحاء العالم.
لذلك كان تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على أسعار الوقود دراماتيكياً بسبب التكلفة المضافة على المزارعين من الوقود، الذي يحتاجون إليه لتشغيل معداتهم، بالإضافة لعمليات النقل التي ارتفعت تكلفتها لنسبة تقدر بـ40% من تكاليف الغذاء في العديد من البلدان النامية، لذلك فمع ارتفاع أسعار الوقود تزداد التكلفة الإجمالية للمواد للغذائية، وما زاد الطين بلة أن الأزمة الحالية تتزامن مع ارتفاع مستويات الديون في العديد من الاقتصادات النامية، ويرجع ذلك إلى التحديات الاقتصادية التي واجهتها الدول النامية أثناء جائحة كورونا، لذلك تواجه حكومات الدول النامية صعوبات كبيرة في دعم ارتفاع تكاليف الغذاء والأسمدة والوقود، وفي كثير من الحالات تتراجع عن دعم المواد الغذائية أو إلغاء الدعم تماماً.
ووفقاً للأمم المتحدة، واجه 193 مليون شخص في 53 دولة بالفعل "انعدام أمن غذائي حاد" في عام 2021، وكان هذا الرقم أعلى بمقدار 40 مليون شخص عن المستوى القياسي السابق في عام 2020، والآن تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في إجهاد النظم الغذائية العالمية الهشة والانهيار، ولم يتم بعد الكشف عن التأثيرات الكاملة، على المدى القصير والمتوسط.
أكثر المتضررين العرب وعلى رأسهم مصر
لطالما كان الخبز شريان الحياة للشعوب، ولطالما اندلعت أعمال الشغب والثورات حول مدى توفر هذا العنصر الغذائي الأساسي، وأسعار المواد الغذائية على نطاق أوسع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فعلى سبيل المثال توجد انتفاضة شعبية في مصر باسم "انتفاضة الخبز" هي مظاهرات وأعمال شغب شعبية ضد الغلاء، جرت في أيام 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، في عدة مدن مصرية، رفضاً لمشروع ميزانية يرفع أسعار العديد من المواد الأساسية، حيث ألقى الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية خطاباً أمام مجلس الشعب، في 17 يناير/كانون الثاني 1977، بخصوص مشروع الميزانية لذلك العام، أعلن فيه إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.
فكان رد فعل الشارع على الزيادات أن الناس خرجت للشوارع حتى استجابت الحكومة وتراجعت عن زيادة الأسعار، وأطلق الرئيس المصري أنور السادات عليها اسم "ثورة الحرامية"، وخرج الإعلام الرسمي يتحدث عن "مخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم"، وتم القبض على عدد كبير من النشطاء السياسيين من اليساريين قبل أن تُصدر المحكمة حكمها بتبرئتهم.
لذلك تهدد الحرب الروسية الأوكرانية بأزمة غذائية في الشرق الأوسط، وخصوصاً الدول العربية التي تعتمد بشكل رئيسي على القمح الروسي والأوكراني، وتأتي على رأسها الدولة المصرية، نظراً لأن النسبة الكبرى من القمح والحبوب التي تعتمد عليها هذه البلدان تأتي من روسيا وأوكرانيا، حيث تشكل روسيا وأوكرانيا معاً ما يقرب من ثلث صادرات القمح العالمية، وحوالي 20% من الذرة، و80% من زيت دوّار الشمس، وتوفران غالبية إمدادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقبل الحرب تم شحن أكثر من 95% من إجمالي صادرات أوكرانيا من الحبوب والقمح والذرة عبر البحر الأسود، وكان نصف هذه الصادرات موجهاً إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كل هذا يؤدي إلى ارتفاع معلات التضخم، ما يؤثر بالسلب على حياة المواطنين، ويدفع إلى حالات سخط وموجة من الغضب مهما اتخذت الحكومات من وسائل قمعية لمنع هذا الغضب من أن يظهر في الشارع، فالتضخم والأزمات الاقتصادية يكونان دائماً دافعاً لثورة الشعوب أكثر من الحرية السياسية، وهما المفتاح لمنع الانتفاضات الشعبية، ويحضرنا هنا قيام محمد البوعزيزي بالتضحية بنفسه بإشعال النار في جسده بسبب الفقر والعوز، واحتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، وهو بائع متجول تونسي شاب، فأدى احتجاجه إلى اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011.
وارتفع معدل التضخم إلى 14.8% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عام 2021، وفقاً لصندوق النقد الدولي، حيث كانت أسعار المواد الغذائية المرتفعة هي المحرك الرئيسي، حيث شكّلت حوالي 60% من الزيادة في تلك المنطقة باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي الغنية، رغم وجود هامش تضخم في دول الخليج أيضاً، لكن تأثيره لم يظهر بسبب الدعم الذي تقدمه الحكومة، كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع معدل التضخم الشهري لإجمالي الجمهورية، وقد بلغ (130.2) نقطة لشهر مايو/أيار 2022، مسجلاً بذلك ارتفاعاً قدره (0.9%) عن شهر أبريل/نيسان 2022.
تحذيرات من ثورة جياع وهجرة جماعية
تستورد مصر، أكبر دول العالم العربي من حيث عدد السكان، 80% من قمحها من أوكرانيا وروسيا، وكذلك لبنان، الذي يعاني بالفعل من أزمة ديون وتضخم خانقة، يستورد أيضاً 60% من قمحه من روسيا وأوكرانيا، اللتين توفران أيضاً 80% من الحبوب التونسية، فإن هذا قد يفسر سبب تسارع حلفاء مصر الخليجيين الأثرياء لمساعدتها بأموال بمليارات الدولارات في الشهور الأخيرة، بالإضافة لاستثمارات أخرى لتعزيز اقتصادها.
وفي حين أن الحكومة المصرية يمكن أن تستمر في اقتراض الأموال، فإن ارتفاع أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى وضعف الشهية لسندات الأسواق الناشئة سيؤثر بشكل كبير على الاقتصاد المصري، ويؤدي إلى تعثر في السداد من شأنه أن يكون له تأثيره الكارثي على سكانها.
كما يواجه لبنان العديد من التحذيرات من حدوث مجاعة وشيكة، حيث يمكن أن يتطور الوضع الحالي قريباً جداً إلى احتجاجات وأعمال شغب، مثل تلك التي حدثت في عام 2019، ولكن مع تأثير أكثر عنفاً، نظراً لتدهور مستوى الحياة والأمن الغذائي فيها، كما حذر رئيس برنامج الأغذية العالمي أكبر وكالة مساعدات غذائية في العالم تحذيراً صارخاً للقادة الأوروبيين من مؤشرات وجود كارثة جوع عالمية، قد تؤدي في نهاية المطاف لهجرات جماعية من الدول الفقيرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.