يعشق كثير من المصريين تداول "إفيهات" محددة من بعض الأفلام المصرية التي قد تصير موضع المثل الذي يلخص حكمة أو يستخدم للسخرية أو أي معنى آخر قد يصعب أو يطول التعبير عنه. والغريب في الأمر أن مستخدمي هذه الإفيهات قد لا يتذكرون الأفلام التي وردت بها؛ لأن ما يهم هو معاني هذه الإفيهات المكدسة في جمل قصيرة لا الأفلام بعينها. من هذه الإفيهات "شاي بالياسمين"، و"الساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب"، و"أنا عايزة ورد يا إبراهيم".. إلخ.
في مشهد أيقوني في فيلم "أحلى الأوقات" (الذي عُرض العام 2004)، يجسد إبراهيم (خالد صالح)، الرجلُ المطحون ذو الملابس المتواضعة، الرجلَ المصري الذي دخل للتو -على ما يبدو– المرحلة الرمادية من العمر، وهو يوبخ زوجته يسرية (هند صبري) على إهمالها لبيتها وأولادها وقضاء وقت كبير مع صديقتين تفصل بينها وبينهما فوارق اجتماعية كبيرة.
يسأل إبراهيمُ يسريةَ عما ينقصها ولا يتوقع أن يكون ما تحتاجه "ورد يا إبراهيم" ولا أن توبخه هي بدورها لأنه يهملها؛ لأنه لم يهدها الورد -رمز الحب- ولو لمرة واحدة في أي مناسبة، وتوبخه كذلك لأنه يرى أن سعر "بوكيه الورد" من الأفضل أن يُستثمر في "نصف كيلو كباب"… تناقض بين حاجتين على هرم ماسلو، أحدهما فسيولوجي وضرورة للبقاء والوجود (الطعام) والآخر عاطفي وضرورة لاستمرار الحب.
عبقرية هذا المشهد أنه واقعي ومتكرر في أغلب البيوت المصرية ذات أطفال حينما يبدأون في الاعتماد على أنفسهم مثل أبناء إبراهيم ويسرية، أبناء في حاجة دائمة لرعاية الأم ووقود المال الذي يجب أن يتصرف في توفيره الأب مهما كان المصدر. يمثل الأولاد وظروف العمل عوامل إلهاء المرأة عن الاهتمام بزوجها واهتمامه هو بها. ومن يرى الرجلَ في هذا الموقف ويقدره حق التقدير، خاصة في ظل ظروف اقتصادية طاحنة، يقدر للرجل صمته وكتم عذاباته جراء رؤيته لنفسه مجرد آلة تأتي بالمال على ما قد يكون في ذلك من مذلة وسط ظروف صعبة تجبره على العمل في وظيفتين أحياناً لكفالة أسرته الصغيرة وربما رعاية أحد من أقاربه كوالد مريض أو والدة مريضة.
وسط هذه الظروف الصعبة، لا يظهر الرجل ضعفه أو هوانه على نفسه؛ لأنه رجل يجب ألا يُرى باكياً أو شاكياً، على حين تتاح للمرأة -بحكم أنوثتها- فرصة البكاء والشكوى دون خجل من زوج أو مجتمع، ويُتاح لها كذلك المطالبة بما ينقصها من "ورد" وغيره.
تتصور كثير من النساء أن صمت الرجل يعني عدم معاناته، بينما هو في الواقع رمز الصمود أمام عقبات الحياة، وأكثرها إيلاماً إحساسُه بتجاهل زوجته لمشاعره أو حاجاته النفسية ورغبتها في أن يعبر لها طيلة الوقت عن حبه لها بالطريقة الهندية أو التركية التي تحبها فقط؛ لأنها -ربما- لا تؤمن بطرق أخرى. وقد لا تعي كثير من النساء أن كثيراً من الرجال يتمنون لو كان لديهم متنفس عن حزنهم عبر شيء غير صمتهم.
ولكن، أليست المرأة في موقف مشابه، وخاصة لو كانت امرأة عاملة ترى الأمرّين في وسائل المواصلات وتعاني من التشتت بين واجبات الأولاد والبيت والعمل والزوج؟ نعم، بالطبع، ولكن عمل الرجل –بحكم قوامته– واجب، وعمل المرأة إضافي؛ فلا يجب تقديم الإضافي على الواجب. هكذا يقول المنطق. وبالنسبة لنواميس الكون، يأتي الاهتمام ويبدأ من المؤنث للمذكر ثم يعود –كرد فعل– من المذكر للمؤنث، ولا أدل على ذلك من اهتمام الأم بأبنائها. فلماذا لا تعتبر الزوجة زوجها أول أولادها وتوليه بعض الاهتمام ليوليها هو –بعد ذلك- كثيراً من الاهتمام؟
وخلاصة القول: كلا الزوجين في حاجة للاهتمام، ويتطلب هذا التنازل عن بعض المتطلبات المادية من الكماليات والرفاهيات التي تزيد يوماً بعد يوم، وتضغط على الوقت والجهد فلا يتبقى منهما شيء وتضيع بسببها الحياة بين "ما تنساش تشتري… وإنت جاي" و"وماتنسيش تعملي…".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.