هكذا علمني عصفورٌ على نافذتي أهم درسٍ في الحياة

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/08 الساعة 13:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/08 الساعة 13:37 بتوقيت غرينتش
عصفور على النافذة/ shutterstock

مع انفراجة ثغر الصباح يتوجَّه صاحبي العصفور (سمير)، وهو الاسم الذي أطلقته عليه يوم رأيته، يتوجه يوميّاً لينصب قامته أمام النافذة الزجاجية لمكتبي من الخارج، يظل ينقر الزجاج لساعات، يتنقَّل بين الأمكنة على يمين ويسار النافذة بخفة وحيويَّة، مسدداً ضربات واهنة لا تحصى بمنقاره الحاد إلى صفحة الشباك الصافية.

بادئ الأمر لم أستوعب لماذا يصرُّ على نقر النافذة بهذه الصورة الرتيبة المتكررة، والتي لا نتيجة من ورائها فيما يبدو لي. حسبته جائعاً أو تؤذيه حرارة شمس الصيف، فيود الدخول بحثاً عن ظل أو فُتات، فتحت له كي يدخلَ، لكنه فاجأني برد فعله الغريب، لقد ابتعد؛ وهكذا كلما فتحت النافذة ابتعد ناحية السور الخراساني المقابل لمكتبي، يقف أعلاه مترقباً حتى أغلق النافذة وأبتعد عنها ليعاود الكَرَّة؛ يقترب من الزجاج وينقره بمنقاره الصغير مرة أخرى، وهكذا يظل ينقر حتى تنتهي ساعات العمل وأنصرف. ولا أدري هل يستمر نقرُه طوال اليوم أم يملُّ فينصرف إلى حيث مأواه؟ إلا أنه من الواضح أن عملية النقر الرتيبة تبدأ مع استيقاظ (سمير) في الصباح الباكر.

مؤخراً، وبعد كثير من التأمل، فهمت لماذا ينقر (سمير) الزجاج. حينما حدّق صاحب المخ الصغير في زجاج النافذة تخيَّل للحظة أن انعكاس صورته على الزجاج عدوٌّ لدودٌ له، يمثل تهديداً حقيقيّاً على حياته، فاتخذ قراراً بمواجهته ومحاربته، ولا يدري أنها نفسه، مجرد انعكاس له ولذاته وأفكاره، ويبدو أنه حتى هذه اللحظة لم يكتشف بعدُ أن عدوَّه هذا لا يموت، أو بالأحرى لن يموت بهذه الطريقة.

البشر والنمط العصفوري الأخرق

إن نمط الحياة البشرية لدى الكثيرين منا يشبه إلى حدٍّ كبير هذا النمط العصفوريّ الأخرق، يشعر الإنسان بالضآلة والضعة، وأن لا قيمة حقيقيَّة له، فيبحث لنفسه عن دور؛ يتصنع المعارك الوهميَّة، ويسعى في اكتساب العداوات ممن حوله، والذين قد لا يكنون له أي عداوة أو بغضاء، فإن لم يَجِد، صَنَع من أوهامه عدوّاً ليضيِّع حياته في محاربته وعدائه، يصنع بيديه فزّاعة من القشِّ، ويُمسكُها سيفاً مصلتاً لامعاً، ويتخيلها تتقافز أمامه، فيسدد إليها الضربات القاصمة المغفّلة، إلا أنها لا تموت!

القصة لا تنتهي عند هذا الحدِّ، بل إنها في المنتصف تماماً، فالبطل لا يكفيه القتال في المعارك الخفيّة التي لا يطلع على مجرياتها أحد؛ بل عليه أن يتقمص أكثر وأكثر، فيعلن بين الناس عن انتصاراته الزائفة التي اختلقها بخياله، ويعتلي المنصات ليقصّ حكاياته حول تلك المعارك التي انتصر فيها، وتصير حديث المجالس، وتلتمع عيناه التماعَ البرق الخاطف في العتمة حينما يروي للأصدقاء كيف قضى على الشرير بضربة سيف واحدة، رغم أنه في النهاية مجرد صفر هزيل مضموم إلى أصحابه الأصفار على أقصى اليسار!

إدراك الإنسان لسلبيات نفسه ينبغي أن يكون حادياً له نحو تطويرها والتغلب على مواطن الضعف والهزيمة لديه، وتنمية مواطن القوة والاستفادة المثلى منها، لا أن يشيِّد في خياله بناءً معرفياً مشوّهاً عن نفسه، خالياً من العيوب والمساوئ، يصدقه ويعيش به بين الناس! فكلُّ من يعيش على ظهر هذا الكوكب البائس لديه ما يكفي من السلبيَّات لملء منطادٍ أسود كبير، بل ربما ليس لدى الكثيرين من أبناء هذا العالم سوى مهارة إنسانيَّة واحدة فقط، والمبدع حقّاً هو القادر على إخفاء عيوب نفسه، وتقليص مساحتها في حياته، وإظهار وتضخيم إيجابياته ومهاراته، والاستفادة القصوى منها وجعلها في المقدمة، فإذا نظر إليه الناس لم يجذب أنظارهم منه إلا لمعان الجانب المبدع، وعَمُوا وصمُّوا عن عيوبه وسلبياته المقيتة. وهذا لن يحدث بالهروب من الواقع والسباحة في الخيال.

اختر السلاح المناسب للمعركة

لو سلَّمنا لـ(سمير) جدلاً بأن انعكاس ظله في المرآة كان عدوّاً فعلياً أعلن عليه الحرب بلا مناسبة واضحة، فإنه لم يتخذ له الأسلوب الأمثل في المواجهة، لم يدرس (سمير) إمكانات عدوِّه بواقعية ليواجهها كذلك بواقعية، وإنما استسلم لجرثومة غزت عقلَه مفادها: أن المنقار قادر على فعل كل شيء، قادر على هزيمة الأعداء حتى ولو تسلحوا بالزجاج العاكس المتين!

إن الطائر الأحمق أخذ على عاتقه أن يحارب عدوّاً خارقاً من زجاج، عدوّاً ليس له به طاقة، يحاربه بمنقار هزيل أخرقَ سرعان ما يتفتَّت، أو يصاب مخه الصغير بارتجاج جرَّاء هذا النقر العصبي المضطرب، أو تلفحه الشمس فيسقط في قصعة حساء لحدأة أو غُرابٍ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق. ولو لم يصرف جهده المضني في الحرب الوهمية والقتال، فصرف جزءاً من يومه- بدلاً من النقر المزعج- في الشدو على حافة الشرفة، لأدخل عليَّ البهجة والسعادة، وصاغ بأحباله الصوتية لحناً رائعاً يدفعني إلى مزيد من الإنجاز والإبداع.

الغيبوبة عن الواقع

لقد ظن (دون كيشوت)- ذلك البائس الحالم- أنه يمكنه إعادة زمن الفروسيَّة المضمحل بجسده النحيل، وسنِّه التي جاوزت الخمسين، وسيفه الصدئ، وحصانه الهزيل، وتابِعِه القرويِّ الساذج.. ظن أنه قادر بإمكاناته الضعيفة على محاربة الشياطين العملاقة ذات الأذرع الطويلة، والتي تبين له فيما بعد أنها لم تكن أكثر من طواحين هواء صمّاء!

لقد أصابه- كما أصاب سميراً- مرضُ الغيبوبة عن الواقع. أخطأ كلا البطلَيْنِ في تحديد الوزن النسبي لنفسيهما ولواقعيهما ولعدويهما؛ فجاءت النتيجة على هذا النحو الفكاهي الساخر: منقار هشّ يحارب الزجاج، وحديدةٌ صدئة تقارع طاحونة شاهقة!

لقد كفَّ (سمير) عن نقر الزجاج، ولا أدري هل اختطفه طائر جارح، فاستقر في معدته ومن ثمّ في فضلاته، أم ثاب إلى رشده وأفاق من غيبوبته الحالمة؛ فقرَّر التغريد في مكان أكثر مناسبةً له ولبني جنسه؟! أرجو أن يكون بخير، ووُفِّق للخيار الأخير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد الغباشي
أديب مصري وباحث في الدراسات الإسلامية
المدير التنفيذي ورئيس تحرير منصة "رواحل" حالياً، ورئيس قسم الإصدارات والبحوث بمؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية "راف" سابقاً.
تحميل المزيد