لم تُلغِ جلسة انتخاب رؤساء وأعضاء اللجان البرلمانية والمعارك التي دارت حولها، الثلاثاء 7 يونيو/حزيران، الاهتمامَ بملف ترسيم الحدود الذي عاد إلى واجهة الأحداث المحلية بنتيجة توجّه باخرة الحفر والتنقيب عن النفط والغاز اليونانية "إنرجين باور" إلى حقل كاريش المتنازَع عليه بين لبنان وإسرائيل، في وقت أعلن فيه لبنان أنّ الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين لبّى دعوته وسيزور بيروت الأحد أو الإثنين المقبلين؛ ليستأنف رعاية مفاوضات الناقورة لترسيم الحدود البحرية.
ويُنتظر أن يواكب وصول هوكشتاين انطلاق الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف الشخصية التي ستشكل الحكومة الجديدة في ظل نقاش جارٍ عن إعادة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي مرة جديدة بعد تأمين رعاية سُنية من كتلة قدامى تيار المستقبل، وبغطاء مفتوح من نادي رؤساء الحكومات السابقين، وتحديداً سعد الحريري، الذي يحاذر الإقدام على خطوة تسمية أي شخصية سُنية أخرى خشية تمردها عليه.
بالمقابل، تبدو لعبة التسويف والمماطلة في حسم الموقف الرسمي من خطوط الترسيم الحدودية مع إسرائيل تحت وطأة المحاولات المستمرة لمقايضة الثروات الوطنية من غاز ونفط، بمسألة رفع العقوبات الأمريكية عن رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، ما أتاح للإسرائيليين اقتناص الفرصة والمبادرة إلى استباحة المياه الإقليمية والتفرّد بعملية استخراج الغاز من الحقول المشتركة مع لبنان، الأمر الذي دفع رئيسَ الجمهورية ميشال عون إلى الهروب للأمام بخطوة "فولكلورية لا تقدم ولا تؤخر" في حفظ الحقوق، حين طلب من قيادة الجيش "تزويده بالمعطيات الدقيقة والرسمية حول وصول الباخرة "إنرجين باور" إلى المنطقة المتنازع عليها ليُبنى على الشيء مقتضاه".
فيما المعلومات تشير إلى أن قيادة الجيش كانت قد سلمت رئاسة الجمهورية ما طلبته من معلومات مفصلة تفيد بشأن وصول السفينة بالتاريخ والساعة والإحداثيات المرتبطة بها والمسافة الفاصلة عن الخط 29 بوصفه خطّاً تفاوضيّاً لم يتنازل لبنان عنه، لكنّه يفتقر إلى توثيقه عبر اعتماده وإيداعه الأمم المتحدة عبر توقيع المرسوم 6433 الملقى في أدراج رئاسة الجمهورية منذ سنة، لكن رئاسة الجمهورية تعاملت مع المعلومات العسكرية بتجاهل واضح ولم تتحرك سياسياً إلا بعد وصول الباخرة المسؤولة عن التنقيب للجانب الإسرائيلي.
ويعود هوكشتاين إلى بيروت بعد جمود كبير أحاط ملف الترسيم بعد أن كان الأخير قد سلَّم لبنان من الجانب الإسرائيلي ردّاً يتمحور حول خطّ الترسيم الذي يبدو متعرجاً، ويومها طلب لبنان اقتراحاً رسمياً موثّقاً ليتمّ الردّ عليه بشكل رسمي. فأرسله الوسيط الأمريكي عبر السفيرة دوروثي شيا، والذي تدارسه حينها الرؤساء الثلاثة عون وميقاتي وبري في اجتماعهم الشهير في قصر بعبدا الذي انتهى من غير اتفاق على ردّ موحّد سوى دعوة الوسيط الأمريكي إلى العودة مجدّداً إلى لبنان لاستئناف وساطته.
لكن هوكشتاين حينها لم يُلبِّ الدعوة، معتبراً أن لبنان ليس جدياً في طرحه حول الترسيم، وأن ما يشهده الملف هو نتيجة تصارع سياسي واضح المعالم بين عون- الذي يود مقايضته مقابل عقوبات صهره- وبين بري الذي يريد سحب الملف من الرئاسة لمنع استثماره سياسياً من قِبَل عون.
بالتوازي تعتبر إسرائيل أنّ حقل كاريش جزء من ثروتها النفطية ويقع ضمن حدودها البحرية، وهو أمر مُعترف به دولياً، نظراً إلى أنّ لبنان حدّد منطقته البحرية بالخط 23، عبر وثيقة رسمية مُسجّلة لدى الأمم المتحدة، وحقل كاريش خارج هذا الخط.
إلّا أنّ اعتبار البعض في لبنان أنّ الحدود تصل إلى الخط 29 الذي يشمل جزءاً من كاريش أعاد النقاش والبحث في الصالونات السياسية والغرف المغلقة حول الحدود البحرية وتعديلها.
لكن حتى الآن، لم يعمد لبنان الرسمي إلى تعديل المرسوم 6433 بحيث يصبح الخط 29 هو الحدود الفعلية الرسمية للمياه اللبنانية بدلاً من الخط 23، لكي يدخل حقل كاريش ضمن المناطق المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل.
وعليه، فإن المبعوث الأمريكي أبلغ لبنان عبر الوسطاء أنّ زيارته للبنان تأتي مقابل تعهد الطرف اللبناني بعدم النقاش والتطرق إلى الخط 29 وعدم البحث فيه، وإلا فإن زيارته لا طائل منها، وأنه جاهز لاستكمال التفاوض انطلاقاً من المقترح المتعرج المرسوم في آخر ورقة قدمها للبنان في زيارته الأخيرة.
لكن هناك جملة من الأسئلة المشروعة انطلاقاً مما جرى في كاريش، وهي لماذا تقوم إسرائيل بهذه الخطوات التي قد تفجر حرباً بحرية وجوية ومسيرات وصواريخ إذا ما أتيحت لها تغطية غربية وعربية، ولماذا لم يقدم حزب الله ومن خلفه الإيرانيون على الرد المباشر، وهل هناك صفقة معدة سلفاً، وخاصة أن الحزب يقول إنه خلف القرار الرسمي ويبرر سكوته بأنه يريد أن تعلن الحكومة اللبنانية أنّ هناك تعدّياً على حدودنا، لكي يتحرّك ويقوم بواجبه في المقاومة والدفاع؟
بالإضافة إلى هذا التحدي الإسرائيلي في عرض البحر لم يقابله أي موقف إيراني ولو من باب التصريح، ولم تتدخّل طهران بعد على هذا المستوى، وهذا الصمت الإيراني مرتبط بالهدوء النسبي في مواقف الحزب في ظل ما يحكى عن صفقة غربية مفادها كاريش مقابل إعادة إحياء الاتفاق النووي ورفع الحرس الثوري عن العقوبات الأمريكية.
ويبدو واضحاً أن كل القوى الفاعلة في الإقليم، وتحديداً الولايات المتحدة وإيران والسعودية وتركيا، لا تحبذ نشوب أي حرب أو مناوشات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط؛ لذا كلما تعززت فرص التوتر والحرب يجري اجترار حلول وتسويات تحد من تعاظم تلك الفرص.
بالمقابل، فإن اللقاء الذي جرى بين مستشار الأمن القومي الإسرائيلي سوليفان ونظيره الإسرائيلي منذ أيام كان واضحاً لجهة أن واشنطن لا تريد أن تسمح لإسرائيل بالدخول في حربٍ الخروج منها سيكون مكلفاً، فيما أنّ تركيزها في هذه المرحلة مُنصَبٌّ على إيجاد أطر تنسيقية للعلاقة بين تل أبيب والعواصم العربية لفرض معادلة جديدة من التوازن كي لا تقع الحرب بين الجانبين عبر خلق مظلة عنوانها الرئيسي "تحالف جوي" تضم العرب مع إسرائيل وتركيا لمواجهة أي تحدٍّ متعلق بالمسيرات الإيرانية والصواريخ الدقيقة.
والأمريكيون لا يريدون فتح جبهة جديدة، خصوصاً الآن؛ حيث هناك حرب أخرى مندلعة لها تأثير دولي كبير، أي حرب روسيا على أوكرانيا، والتي فرضت على واشنطن وأوروبا البحث عن مصادر للطاقة، خصوصاً أنّه بحسب الخطة الأوروبية يجب أن تستغني أوروبا خلال سنة أو سنتين عن الغاز والبترول من روسيا، واستبداله بمصادر من منطقة الشرق الأوسط، تكون تركيا بوابته عبر إسرائيل ودول المتوسط، وتأتي زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة انطلاقاً من هذا المسار؛ حيث سيُجري زيارات أهمها ستكون للسعودية، ولقاء بولي عهدها محمد بن سلمان، بعد توترات بين الجانبين، وذلك بغية إيجاد حلول ومصادر نفطية؛ لأنّ الغاز والنفط مهمان جداً في الوقت الحاضر، والسعودية مصدر يمكن أن يوفر للأمريكيين والأوروبيين الاعتماد عليه.
وعليه، فإن لبنان ليس في ترف الذهاب لحرب نفطية- بحرية طالما أن الجميع في المنطقة حريص على إنجاز التهدئة والتسويات، ريثما تنتهي فصول المعركة الدائرة في أوكرانيا، وقياس الخسائر التي تكبد منها العالم بأسره؛ لذا يبدو لبنان بعيداً عن دائرة الاهتمام الدولي، بدليل أن الموفد الأمريكي سيحط في بيروت بعد اتصالات كثيفة وحثيثة بذلتها الحكومة في لبنان للمسارعة في الحد من الخسائر المتوقعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.