جميعنا نريد أن نملك تلك القدرة على الخَطابة والبلاغة والمحاجة مع النباهة اللازمة والكاريزما التي تُغلّف كل ذلك، لكنّنا بين نارَين، أو لنقل بين كِذبتين أساسيّتين، الكِذبة الأولى التي تقول إن الجميع قادر على فعل ذلك، كل ما علينا هو تعديل البرمجة العصبية لدينا ببعض التمارين والعادات الذريّة الكونية "الطاقَوية"، طبعاً علمتم عمن أتحدّث، أصدقائي منظمة "التغبية" البَشرية بكل فروعها. والكِذبة الثانية بالقول إن كل شيءٍ مقرون بالموهبة، فالموهوب لا يحتاج إلى التعب أو الدراسة أو الاجتهاد كي يصل إلى ما وصل إليه، وقد يحاجونكَ بليونيل ميسي عبثاً، كأن ميسي لا يتمرّن ولا يجتهد على تدريبات متصلة ونظامٍ صارم ليحافظ على لياقته.
في هذه المقالة، سأخبركم بأشياء اجتهاديّة يقوم بها المُثقفون الحقيقيّون.
أوّلاً، يتّفق مُعظم العلماء والفلاسفة والفقهاء والباحثون على أن التركيز على المدى الطويل هو السّلاح الفتّاك لبلوغ أي هدف علمي أو فكري أو مبحثيّ، ذلك أن مُعظم الناس تنخفض قدرتهم على التركيز وتتلاشى سريعاً، والأسباب عديدة، منها ما هو خمول وراثي، ومنها ما هو مؤثرات خارجيّة مستمرّة، أصدقاء، مواقع التواصل، الأبناء، المشاغل! بينما يُخصّص المثقفون كاملَ يومهم لأبحاثهم، وهذا ما يجعلهم يتخلّون عن العادات البشرية اليومية "المألوفة" و"المعتادة"، مثل التنزّه، أو البقاء في مواقع التواصل، أو التبحّر في الخيالات والأوهام طوال الوقت، المثقفون واقعيّون، يرون في العلم كما يرى المحروم أهميّة جمع المال بأي طريقة.
التركيز المستمر لوقت طويل ليس بالعملية السهلة ولا بالصعبة، فهي تقوم على حُبّ الشيء الذي تقوم به حباً عميقاً، وليس حباً سطحياً، وهم بذلك، عندما يتحدّثون عمّا يحبّون، تشعر بحبّهم لعملهم، فلسانهم يُعبّر عن صراحة وشغف لن تجدهما عند إنسان آخر، هو شعور بين المفكر والمستمع. على أولياء الأمور معالجة مشاكل أبنائهم مُبكّراً فيما يخصّ اضطرابات التركيز، لأنها ستتفاقم، ومشكلة التركيز تكمن في أن كل الأمور السيئة لا تحتاج تركيزاً، أي إنهم لن يحتاجوا للتركيز للقيام بحماقات.
المثقفون يقومون بسرد القصص القصيرة على المستمعين لشرح أفكارهم وعلومهم، كلنا نحب القصص، فهي تحفّز الفضول والخيال، لذلك، من الذكاء أن نُخضع كل شيء للأقصوصة والمزاح والمأثورات، لأن المستمع يقع في فخ القراءة والاستماع، ويقع في فخ الفضول لمعرفة النهاية، وبذلك، يأخذ المثقف الأقصوصة كقارب لحمل المستمع الى جزيرته.
كذلك، مصادر المثقفين مُبهمة في بعض الأحيان، صحيحة، لكنها مُبهمة، أي، ليست في متناول الجميع، فقد تكون بمصادر متعددة، بلغات مُختلفة، قد يقول قائل إنها مُغالطة، ستكون كذلك إذا كانت المعلومة خاطئة، لكن المثقف يعي أن أهم شيء في مصادره هو علميّة المصدر وأحقيّته، أما لغته، فهي حيلة وطريقة لتغليف المصدر، فقد يطرح لك المثقف بعض المصادر بالصينية والإيطالية، من مواقع أمريكية، من كتاب كرواتي أو مجريّ، لن تستطيع فهمه، لكنك لو ترجمته، فستجد أنه لم يكذب عليه. تعدد المصادر ولغة المصادر، هما طريقة المثقف في حثّ المستمع والقارئ على البحث، كي لا يبقى خاضعاً ومستمعاً سلبياً، بل يدفعه إلى أن يكون مستمعاً وقارئاً إيجابياً، مُحقّقاً. وبما أن المثقف يُعدّد مصادره وقراءاته، فهو بذلك مُثقّف! لأن المصدر الواحد لم يكن يوماً من الثقافة.
خطوة المثقفين استباقية، تظهر أنها كذلك زمنياً، أي عمودياً، لكن في غالب الأحيان، هي استباقية أفقيّة، أي، معرفة المحيط هي التي تجعلك أكثر نباهة، وما سيحدث لمحيطك، قد حدث لأطراف بعيدة من قبل.
المثقفون يستمعون لأعدائهم في الفكر والمعتقد! تبدو فكرة عادية، لكنها صعبة للغاية، معظم الناس يغضبون سريعاً من رأي مخالف لهم، ويريدون بأي طريقةٍ فرض أو هداية الآخر إلى فكرتهم، المثقفون لا يغضبون من رأي الآخر، بل يستمعون للآخر بدقة، لأن فكرة الآخر سلاح المثقف، سلاح للمعرفة، وسلاح لبناء الفكرة على أساس فكر الآخر، لأننا نعيش طوال الوقت فيما يسمى رد الفعل، الحياة بين الفعل ورد الفعل، فإذا أخذت معلومة ناقصة فسيكون ردك ضعيفاً، أو موافقتك غير قوية.
هناك بعض الظروف التي تساعد بعضاً من الناس على أن يكوّنوا ثروة ثقافية أحسن من غيرهم، مثل النشأة على بين ثقافي، أن يكونوا من أبوين من جنسيتين مختلفتين، أو أصلين مختلفين، السفر كثيراً، القراءة بكثافة.. كلها عوامل تضع الفرد في ظرف حسن ليصبح مثقفاً، إذا ما اجتهد، لأن الثقافة ولحد اللحظة لا تؤخذ بالشريحة ولا بجرعات الحقن.
المثقفون يستعملون كل أفكار وثقافات وعِبر وأمثال العالم لخدمة فكرتهم، فهم لا يمنعون أنفسهم من الاطلاع على تفاصيل الآخر، وأخذ ما يمكن تذويبه في فكرتهم، وهذا ما يسمى الانتباه للتفاصيل.
ونهايةً فعمود المثقفين جميعاً بكل تخصصاتهم هو التاريخ، التاريخ مادة أساسية في مختبر أي مثقف لبناء أو شرح أو تطوير أي مفهوم كان، من لا يعرف التاريخ العام للعالم، والحضارات والتدرج الحضاري، لن يستطيع طرح أي شيءٍ نافع، فهو سيقع في ما يسمى إعادة اختراع العجلة، أي: يحسب أنه اخترع العجلة، غير أنها موجودة منذ مئات السنين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.