المعارض في زمن كانت السياسة فيه لمن يحكم فقط، الرافض للظلم أيام كانت الناس راكسة فيه، الصوت الهدير ذو التعبير الخطير، الحالم وسط قصب الأهوار وهو مطارد ليقتلوه بعراق فيه حرية وكرامة وراحة بعد عناء في بلدٍ يُقدس الإنسان كما تُقدس الأديان، وطناً لا يباع ويُشترى في مزادات السياسة الرخيصة، دولة لا يحكمها متعصب جاهل، ولا يديرها حاقد قاتل.
مظفر النواب الشاعر الذي تولته أنظمة الحكم مطاردة ومتابعة أمنية ومنعاً لقصائده، وهو الواضع روحه أمامه أن تطير في أي لحظة لبارئها، أو يقفلوا عليها بالقضبان.
قال:
(سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان
وقنعت أن يكون نصيبي من الدنيا كنصيب الطير
ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان
وأنا لا زلت أطير
فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجونٌ متلاصقةٌ
سجانٌ يُمسك سجان)..
هي كلمات ليست كالكلمات، ثورة شعرية رادعة وسط أنظمة ظالمة رادعة، ثورة شعر تحارب سلطة القتل والسجن والسلاح، بصيص أملٍ من الشعر الجميل يبعث النور في الليل الحالك الطويل أن يا نار اتّقدي واشتعلي.
هو ذا مظفر النواب وشعره، وهو وما حوله وشعره ثورة متقدة النيران لم تطفئها سنين الحرمان والخسران والخذلان، فعذب الكلام صادقه لا يلفه قبر النسيان، يبقى في كل زمانٍ ومكانٍ شاهداً على تاريخ مضى وحضر، وبقدر العطاء ووفق التصرف سيصنع جيل المستقبل.
مظفر النواب الشاعر المعارض للظلم من المهد إلى اللحد حيثما حل الظلم والظالمون والظلام، هرب من زنزانة سجنه ناشداً الحرية، قصة هروب حقيقية كجمال قصص سينمائية كفيلم (الهروب) لـ(أحمد زكي) أو (The Shawshank Redemption) لـ(تيم روبنز)، فلجأ لأهوار جنوب العراق الثائرة ليكمل مسيرته الظافرة.
هو (مظفر عبد المجيد النواب)، والنواب من النيابة (الحكم)، إذ كانت عائلته في الماضي تحكم إحدى الولايات الهندية، في البدء استقرت العائلة في بغداد ثم هاجرت العائلة للهند باتجاه المقاطعات الشمالية (بنجاب، لكناو، كشمير) ونتيجة لسمعتهم العلمية وشرف نسبهم، أصبحوا حكاماً لتلك الولايات في مرحلة من المراحل.
ثم بعد استيلاء بريطانيا على الهند، أبدت عائلة النواب روح المقاومة والمعارضة المباشرة للاحتلال البريطاني، فنفوهم على إثر ذلك للعراق بلدهم الأم، حيث تغفو أمجاد العائلة وماضيها.
مظفر النواب والسجن
اضطر مظفر لمغادرة العراق، بعد اشتداد التنافس الدامي بين (القوميين) و(الشيوعيين)، كان (البعثيون) يراقبون بمكر وحقد لينقضوا على العراق يفترسونه وحصل لهم ما خططوا له، فكان هروب (مظفر النواب) إلى إيران عن طريق البصرة، لكن المخابرات الإيرانية أيام حكم الشاه (السافاك) ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى روسيا، حيث أخضعوه للتحقيق البوليسي وللتعذيب الجسدي والنفسي لإرغامه على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها.
سلمته السلطات الإيرانية إلى الأمن السياسي العراقي، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، إلا أن المساعي الحميدة التي بذلها أهله وأقاربه أدت إلى تخفيف الحكم القضائي للسجن المؤبد.
في سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) القريب من الحدود العراقية-السعودية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نقلوه لسجن (الحلة) في بابل.
هروبه من السجن
في سجن (الحلة) الموحش يقوم مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة المظلمة يؤدي إلى خارج أسوار السجن فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة مدوية في أرجاء العراق وجواره..
كانت خطة الهروب بتشكيل لجنة داخل السجن ضمنهم مظفر النواب، تم حساب المسافة الواجب حفرها من البداية وحتى نهاية سياج السجن حيث يوجد (كراج) وقوف سيارات الحمل، يبدأ العمل بحفر حفرة تقدر بمترين عمقاً ثم الانحراف بضعة أمتار لليسار وحتى يصل النفق إلى باحة (الكراج).
وجرت تهيئة مستلزمات الحفر التي هي عبارة عن أدوات بسيطة لا تتجاوز الملاعق والسكاكين وأدوات حديدية صغيرة معمولة على شكل فؤوس لا تلفت النظر.
بدأ الحفارون الحفر وأحاطوه بالسرية التامة، وكانوا يتفننون بالتخلص من تراب الحفر الذي أصبح معضلة كبيرة نظراً لكثرته، وبعد أيام طويلة من الحفر حلت ساعة الهروب، حيث هرب خمسة وأربعون سجيناً، أُلقي القبض على أربعة عشر منهم فيما بعد، في حين مضى بقية السجناء الهاربين كل في اتجاهه لغرض الالتحاق بصفوف المناضلين المناوئين للحكم الديكتاتوري في العراق أو بكل بساطة للخلاص والحرية.
بعد هروب مظفر النواب المثير من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها ستة أشهر، ثم توجه إلى أهوار جنوب العراق ومن ثم إلى (الأهواز)، وعاش مع أهلها هناك قرابة سنة.
التجربة الشعرية
كرس مظفر النواب حياته لتجربته الشعرية وتعميقها، والتصدي للأحداث السياسية التي تلامس وجدانه الذاتي وضميره الوطني، يصوغ في شعره أن عاهرة في حانة هي أفضل ممن يبيع قضيته ووطنه وشعبه من رؤساء وحكام وملوك وسياسيين ورجال دين.
قال:
(مهلك سيدتي
لم يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والأخضر
ويدافع عن كل قضايا الكون
ويهرب من وجه قضيته!)
مظفر النواب شاعر ذو عينين لا أعور، ليس كمثل من ينظرون بعين مصلحتهم وهواهم، عندما يتمنى البعض أموالاً وثروة ومنصباً، كان مظفر النواب يتمنى أن يسقط القمع والظلم، وأن يعود المنفيون بسبب مزاجيات الحاكمين وفسادهم لأوطانهم.
قال:
(أي إلهي
إن لي أمنية
أن يسقط القمع بداء القلب
والمنفى يعودون إلى أوطانهم ثم رجوعي)
مظفر النواب شاعر أحب العراق وأحبه، وشاعر ملأ قلبه حباً للعراق ودافع عن حريته شاباً صغيراً وشيخاً كبيراً، هو الحالم ببلد يُقدس الإنسان كما تُقدس الأديان فالإنسان والأديان قدسية واحدة، ولأن الإنسان أصل التشريع وأساسه ولأجله جاءت الأديان كتطبيق وتنظيم عملي لسعادته ونجاته، ولا إنسان بلا وطن، كيف يعيش بلا وطن؟ّ لئلا يكون الوطن جحيماً لا يطاق بسبب حاكميه وسياسييه يسومونه سوء العذاب.
قال:
(يا وطني المعروض كنجمة صبحٍ في السوق
في العلب الليلية يبكون عليك
ويستكمل بعض الثوار رجولتهم
ويهزون على الطبلة والبوق
أولئك أعداؤك يا وطني)
فلسطين عند مظفر
فلسطين عنده جرح عميق يذر أعداؤه الملح عليه ليزيد الوجع، خيانات وخذلان، ولكن رغم ذلك تبقى فلسطين في القلب والروح والفكر.
قال:
(من باع فلسطين سوى أعدائك أولئك يا وطني،
من باع فلسطين وأثرى بالله
سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام ومائدة الدول الكبرى
فإذا أذن الليل تطق الأكواب بأن القدس عروس عروبتنا
أهلاً
أهلاً
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم
أولاد الـ…!
هل تسكت مغتصبة؟)
يبرر مظفر النواب "الجرأة" بالألفاظ في جملة قالها في إحدى المناسبات،
قال:
(هذه القصائد لم تكتب لمناسبة
كُتِبَت لدهرٍ من الحزن والتحدي
لا خوف أن يطول ما دمنا ننبض
والأفضلون يحملون السلاح
بعضكم سيقول بذيئةً
لا بأس
أروني موقفاً أكثر بذاءةً مما نحن فيه!).
أعداء الوطن سياسيون (فاسدون) ورجال دين (فاسدون) وأحزاب (فاسدة) وجماهير جاهلة مغفلة (فاسدة) ليصنعوا بمجموعهم نظام حكم (فاسداً).
يعرف مظفر النواب أساس المشاكل ولبها، ويصرح بها علانية ولا يخاف وذلك لسبب وحيد وكبير وهو أنه شجاع وواعٍ، شاعر كان سلماً لمن سالم العراق، وحرباً لمن حاربه.
قال:
(كل شيءٍ طعمه طعم الفراق
حين لم يبقَ وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق
حينما ترتفع القامات لحناً أممياً ثم لا يأتي العراق
كان قلبي يضطرب
كنت أبكي
كنت أستفهم عن لون عريف الحفل
عمن وجه الدعوة
عمن وضع اللحن
ومن قاد
ومن أنشد
أستفهم حتى عن مذاق الحاضرين
يا إلهي
يا إلهي
يا إلهي
إن لي أمنية ثالثة
أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزيناً
ولقد شط المذاق
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا أحدٌ
في الحفل غير الاحتراق
كان حفلاً أممياً
إنما قد دُعي النص ولم يُدعَ العراق).
مظفر النواب الشاعر الذي تنبأ بضرورة المطالبة بالحقوق من غاصبيها لكيلا يصبح حالنا فقراء منسيين بين حكومات الكَسَبَة،
قال:
(أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربيٌ واحدُ إن بقيت حالتنا هذي الحالة
بين حكومات الكَسَبَة).
مظفر النواب الشاعر الحالم بالعدالة والكرامة، وأن يكون الحاكم قدوة للرعية لا لعنة تتعوذ منه الناس آناء الليل وأطراف النهار.
ترى الثورة الشعرية بأوج عظمتها، وبأحر لهيب نارها، تحرق هياكل من عروش بنيت على جرفٍ هارٍ من هياكل وجماجم الأبرياء والأحرار المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة.
يرى مظفر النواب جماجم المظلومين المغيبين جذوراً تحفر الأرض لتثبت الأصل ليشهق الجذع وتنمو ثماره شجرة الحرية التي سقت جذورها دماء الشهداء لتخضر الحرية حية.
الشاعر الثائر في بلدان عشش فيها الظلم، فأتخمت البطون الحاكمة والمتسلطة وجاعت بقدر شبعها شعوب خلق الله الذين لم يكن لهم ذنب إلا أن أنهم وُلِودوا ليحكمهم جاهل وظالم وجائر، لتدرك الناس، حتى لو في وقتٍ لاحق أن الحق يؤخذ أخذاً، لا يسمى حقاً من يشحذه بالذل شحذاً.
قال:
(لماذا أدخل القمع إلى القلب
وتستولي الرقابة على صمتي
وأوراقي
وخطواتي
ومتاهاتي
ألّا أملك أن أسكت
أن أنطق
أن أمشي بغير الشارع الرسمي
أن أبكي
ألّا أملك حقاً من حقوق النشر والتوزيع للنيران مجاناً
لماذا يضع السيد هذا وطني في جيبه الخلفي؟
من إرثه النفط وتسويقي
ومن ذا راودته نفسه أن يشتريني).
يصرخ بوجههم أنه ليس خائفاً من ظلمهم ومن تهديدهم ووعيدهم وسجونهم.
قال:
(أيها الناس
هذي سفينة حزني
وقد غرق النصف منها قتالاً بما غرقت عائمة
وشراعي البهي شموخي
تطرفت وعياً
وأدرج في كل يوم كأني في قتلهم قائمة
لا أخاف
وكيف يخاف الجهور بطلقته طلقة كاتمة).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.