"التطبيع خيانة عظمى" هكذا صرح وردد الرئيس التونسي قيس سعيد، في أكثر من مناسبة، قبل انتخابه، وقد جلب له هذا الموقف الاحترام داخلياً وخارجياً، وزاد من نسبة الثقة فيه انتخابياً.
واستبشر الفلسطينيون بمختلف فصائلهم، بصعود سعيد إلى سدة الحكم في تونس؛ حيث عدها الرئيس الفلسطيني محمود عباس فرصة لمزيد من تعميق وتمتين التعاون بين تونس وفلسطين، واعتبرت حركة المقاومة الإسلامية حماس فوزه بالانتخابات "دعماً كبيراً للقضية الفلسطينية والقضايا العادلة في العالم".
وخلال الحملة الانتخابية وعد قيس سعيد أنصاره بسن قانون يجرّم التطبيع ويعتبره خيانة عظمى وبعيد انتخابه واصل سعيد في نفس الاتجاه؛ حيث صرح للقناة الفرنسية فرانس 24: "كل دولة حرة في اختياراتها (بشأن العلاقات مع إسرائيل)، لكن القضية تتعلق بالخيانة ومن يتنكر للحق المشروع للشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته".
واعتبر قيس سعيد لاحقاً صفقة القرن خيانة عظمى، وشدد على أن الوضع الطبيعي هو أن نكون في حالة صراع مع الكيان الغاصب حتى إنهاء الاحتلال وإنهاء تشريد الشعب الفلسطيني.
جعلت هذه المواقف من قيس سعيد "بطلاً قومياً" في نظر التونسيين وأنصار القضية الفلسطينية وظلوا ينتظرون منه مبادرات تعزز وتثبت ما صرح به.
إلا أنه إثر انقلاب 25 يوليو/تموز في تونس، خفت صوت قيس سعيد في هذا الاتجاه، انتهجت السلطات التونسية مساراً جعل أحد رموز المعارضة يتحدى الرئيس التونسي بأن يعيد عبارة "إن التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى" مرة أخرى، وذلك ما لم يحدث إلى الآن.
شعارات لا غير
خلال سنتي 2020 و2021 اللتين تخللتهما انتهاكات إسرائيلية كبيرة ومحاولات تهويد القدس وحرب معركة سيف القدس، والتي كانت خلالها تونس عضواً غير دائم بمجلس الأمن الدولي ممثلة للدول العربية والإفريقية، توقع المتابعون خطابات مزلزلة ومواقف جريئة ومبادرات جدية من تونس تدين الجرائم الصهيونية.
وانتظر العديد منهم أن تشهد منابر الأمم المتحدة خطابات تذكرهم بخطابات جمال عبد الناصر والهواري بومدين وصدام حسين، إلا أن الرئاسة والخارجية التونسية تشبثتا بسياسة "التمسك بالشرعية الدولية" والمواقف الدبلوماسية العربية الباهتة دون أدنى تغيير.
ومن اللافت للانتباه ما قام به رئيس الجمهورية قيس سعيد، من إنهاء مهام مندوب تونس لدى الأمم المتحدة حينها المنصف البعتي، حيث ردت السلطات التونسية هذا الإنهاء إلى ضعف أدائه وغياب التنسيق معها، إلا أن عديداً من المصادر أرجعت ذلك إلى موقفه الداعم لمشروع قرار فلسطيني يدين خطة السلام الأمريكية.
ولم تحد بيانات الخارجية التونسية التي تعود بالنظر إلى الرئاسة، عن دائرة الشجب والتنديد والتضامن، وكان صوت البرلمان والشعب التونسي حينها أعلى بكثير من صوت الرئاسة في إدانة الجرائم الإسرائيلية.
وإثر استشهاد الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة استهجن التونسيون تأخر الرئاسة التونسية في إدانة هذه الجريمة، وزاد غضبهم تزامن هذه الجريمة مع جدل أحدثه دخول إسرائيليين إلى تونس بمناسبة حج الغريبة.
حج الغريبة.. والتطبيع المعلن
بعد سنتين من توقفه بسبب جائحة كورونا، عاد تنظيم حج الغريبة سنة 2022، وهي مناسبة دينية يهودية يؤدي خلالها اليهود الحج إلى معبد الغريبة في جزيرة جربة جنوب تونس- وهو من أقدم المعابد اليهودية في العالم- وينظم الحج إليه سنوياً في اليوم الثالث والثلاثين بعد عيد الفصح اليهودي.
في السنوات الماضية كان دخول الحجاج اليهود إلى تونس، يتم عبر جوازات سفر تونسية أو أوروبية، ولم يجرؤ اليهود القادمون من فلسطين المحتلة على الاستظهار بجوازاتهم الإسرائيلية، إلا أن هذه السنة وثق نشطاء تونسيون خلال فترة حج الغريبة وجود إسرائيليين في مطار تونس قرطاج وتجميع جوازات سفر إسرائيلية من قبل دليل سياحي والاستظهار بها لدى أعوان الجمارك في المطار.
أيضاً تجرأت وكالات سفر على إعلان رحلات مباشرة من مطار بن غريون إلى مطار تونس قرطاج بالمناسبة، كما نشر إسرائيليون صوراً لهم أثناء جولات سياحية بتونس.
وكان الصحفي الإسرائيلي إيدي كوهين قد نشر تدوينة تفاعل فيها مع موسم حج اليهود لمعبد الغريبة على صفحته الرسمية قال فيها: "تحية لفخامة الرئيس قيس سعيد، شكراً للسماح لمئات من الإسرائيليين بالسفر إلى تونس".
ومن المشاهد الأكثر استفزازاً للتونسيين هي الصورة التي جمعت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن مع أشهر المطبعين المسلمين "حسن الشلغومي" الإمام الفرنسي من أصول تونسية والذي ظهر سابقاً في صور مع مسؤولين إسرائيليين في تل أبيب، وصرح بأن "إسرائيل لا تعادي المسلمين وأنها فقط تحارب الإرهابيين مثل حزب الله وحماس والحوثيين والنظام الإيراني، وأنها ستجلب الأمان والسلام للمنطقة وللمسلمين". ودعا بالتوفيق والنصر للجيش الإسرائيلي.
إدانة شعبية وصمت رسمي
أدان التونسيون ما اعتبروه تساهلاً في دخول عناصر منتمية للاحتلال الإسرائيلي للبلاد، متمسكين بموقفهم الثابت في رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث تحرك عدد منهم ضد ما اقترفته الدولة في عهد قيس سعيد من السماح بانتهاك التراب التونسي من قبل مستوطنين إسرائيليين، وصدرت عن عديد من الأحزاب مواقف رافضة لذلك؛ حيث عبرت النهضة عن رفضها "استغلال موسم الغريبة لتمرير أشكال من التطبيع".
وقال حزب التيار الشعبي إن "زيارة الغريبة تحولت إلى مناسبة سنوية لتعميق التطبيع مع كيان العدو وإلى فرصة لتدخل أخطر عناصره الإرهابية لبلادنا، وهو ما حصل في زيارة هذا العام أيضاً".
كما قامت عديد من الجمعيات المناصرة للحق الفلسطيني بتحركات تدين "التطبيع" مع العدو الصهيوني وتطالب الرئيس بالوفاء بوعد سن قانون يجرم التطبيع مع "الكيان الصهيوني".
في المقابل لم تكتفِ السلطات التونسية بالصمت تجاه هذه الانتهاكات بل تصدت إلى بعض هذه التحركات وقامت بإيقاف ناشطين فيها.
ويبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد الذي رفع في السابق الصوت عالياً معتبراً التطبيع "خيانة عظمى" يرزخ اليوم تحت تأثير الأنظمة العربية الداعمة للانقلاب على الدستور في تونس والمطبعة مع تل أبيب، خاصة الإمارات العربية المتحدة.
ويبدو أن هذا الاصطفاف جعل السلطات التونسية تراجع مواقفها تجاه القضية الفلسطينية بصفة عامة وخيار المقاومة خاصة، مراجعة يحاول الترويج لها على أساس أنها "دبلوماسية الواقع" أحياناً والتشبث بالحوار سبيلاً للسلم والأمن على أساس الشرعية الدولية والقانون الدولي أحياناً أخرى.
لتبقى التخوفات مشروعة بأن تلتحق تونس "التطبيع خيانة عظمى" بركب المطبعين من الدول العربية تحت وطأة "إكراهات الواقع" خاصة في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تعرفه البلاد في الأشهر الأخيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.