عنترة بن شداد العبسي.. كيف جمع بين حياة العبودية والحب والحرب؟!

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/03 الساعة 09:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/03 الساعة 09:58 بتوقيت غرينتش
فارس عربي قديم (تعبيرية)/ Shutterstock

هَلا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ *** إنْ كُنتِ جاهلةً بما لم تعلَمي

يُخبرْكِ من شهِدَ الوقعيةَ أنّني *** أغشَى الوغى وأعفُّ عندَ المغنمِ

كان الأديب العربي الأشهر الجاحظ يقول في رسائله السياسية التي خصص فيها رسالة بعنوان "مقدمة فخر السودان على البيضان"، يحتفي بدور ذوي البشرة السمراء في حياة العرب قبل وبعد الإسلام، وقد عدد خصالهم، وتتبع مشاهيرهم، وذكر بعضاً من قصصهم، كان "يذكر أسماء السودان الذين اشتُهروا بالفروسية أمثال خفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، وعنترة بن شداد، وسيلك بن السلكة، وعمير بن الحباب، والحجاف بن حكيم، وعامر بن فهيرة… ثم يذكر ثانياً خصال السودان، وأهمها السخاء الذي يغلب عليهم ولا تنافسهم فيها أمة أخرى، ومِن خصالهم خفة لغتهم، وذرابة ألسنتهم، وخلوهم من الفأفأة والعيّ. وهم أخطب الشعوب، يقف الخطيب طوال النهار يتكلم دون تعب. ومن خصال السودان قوة الأبدان حتى ليستطيع الواحد منهم رفع الأثقال التي يعجز عنها جماعة الأعراب".

وقد جمع عنترة بن شداد العبسي، شاعر وفارس العرب في الجاهلية، كثيراً من هذه الخصال التي ذكرها الجاحظ سابقاً، فمن قلب الجزيرة العربية جاءتنا أخبار الجاهلية الأولى التي جمعت بين مساوئ الأخلاق، مثل الغارة والغزو والجهل والقتل، وبين مفاخرها كالكرم والشجاعة وحفظ السر وحقوق الجيرة والدفاع عن الفقير والضعيف، واقع جمع النقيضين في صورة عجيبة، ولا شك أن الاستغراب لا ينفك عن أولئك المحبين المتغزلين الذين وجدوا الحب وعايشوه وقالوا فيه أحلى الأشعار وأخلدها، وسط كل هذا القتال والدماء والثأر!

وكم اشتُهر من العرب قبل الإسلام رجال جمعوا بين الفروسية والفصاحة! فأبقَوا سيرتهم حية في بطون الكتب، ولعل عنترة العبسي يعد من هؤلاء المشاهير الكبار، فإذا ذُكر الحب في ذلك الزمان البعيد كان عنترة من جملة كبار المحبين الهائمين، وأشعاره شاهدة على ذلك، وإذا ذُكرت الشجاعة والقتال والنزال كان عنترة على الرأس بسيفه المهنّد اللامع، وسُمرته التي تميزه تحت أسنة الرماح، وأشعة الشمس المحرقة في قلب الصحراء.

 فمن هو عنترة بن شداد العبسي؟ وكيف جمعت هذه الشخصية المتقلبة صفة الحب والحرب في آن؟ وكيف تحرّر "ابن زبيبة" من عار العبودية، وعدم الاعتراف بنسبه بعد سنوات من المعاناة وهضم الشأن؟!

عبودية بائسة!

في مرابض بني عبس، قبل الإسلام بقرن على التقريب، في العام 530م، وفي وسط الجزيرة العربية شمال نجد، ولد عنترة بن شداد بن معاوية العبسي، سليل القبيلة العربية التي اشتُهرت بالحرب والنزال، والغارة والغزو، لرجل من سادات بني عبس، غير أن هذا الرجل أنجب ابنه هذا من جارية حبشية سوداء تُسمى زبيبة، وظل معظم حياته غير معترف بهذا الولد، ولا ذاك النسب، تارة تحت سطوة وضغط من أبنائه الأحرار، وتارة مخافة أن يلحقه عار أو منقصة وهو السيد العبسي الشريف، وبسبب هذه القسوة، عاش عنترة على هامش حياة قبيلته عبداً من جملة العبيد يرعى الغنم، ويحلب الشاة، ويهيم في الصحراء على أمل الإلحاق بنسبه الذي يستحقه يوماً ما.

كانت الأيام تمرّ على عنترة شديدة قاسية، بين الفقر والعبودية، لكن نفسه الأبيّة حرّضته على تعلم الفروسية وفنون القتال، والادخار من عمله في الرعي حتى اشترى سيفاً ودرعاً ورمحاً، ودفنها في الرمال، وكان يخرجها فيتعلم عليها وقت الحاجة، وكانت قبيلة عبس في تلك الأثناء منخرطة في الحرب الشهيرة في التاريخ العربي التي عرفت بـ"داحس والغبراء" أمام غريمتها اللدود قبيلة بني ذُبيان.

فكانت الحرب بين الفريقين لا تفتُر ولا تهدأ، والغارات لا تتوقف، وفي واحدة من تلك الغارات أُصيب العبسيون بهجوم ثقيل، فتبعهم فرسان وشباب بني عبس، وانطلق عنترة معهم، فقال له أبوه: كُرّ يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يُحسن الكرّ، إنما يُحسن الحلاب والصرّ. فقال له أبوه: كرّ وأنت حُرّ! وادّعاه أبوه بعد ذلك، حين رأى شجاعته وبطولته وهزيمة هؤلاء المغيرين على يديه، والثابت أن عنترة لم ينل حريته إلا بشقّ الأنفس، وبذل الجهد والتضحيات، وبعد أن بلغ أبوه من الكبر عتيّاً!

في سنوات العبودية التي طالت، جمع عنترة بين الحب والفروسية، لقد أدرك أن حبه العميق لابنة عمّه عبلة العبسية لن يكون في مناله دون انتزاع حريته، وأن هذه الحرية لن يتحصّل عليها إلا إذا كان فارساً كبيراً من فرسان قبيلته، ولا يكون ذلك إلا في ميدان الدماء والكرّ، وفي مواطن دفع المغيرين والفرسان والأبطال عن حوزة القبيلة وشرفها.

عنترة بن شداد.. الفارس!

جادَتْ يدايَ له بعاجِلِ طَعنةٍ *** بمُثقّفٍ صدْقِ القناةِ مُقوَّمِ

وتركتُه جَزْر السباعِ يَنُشنَهُ *** ما بينَ قُلَّةِ رأسهِ والمِعصَمِ

عنترة الفارس البطل، ذلك الشاعر الذي لا يكاد يخلو من مواطن بطولته وشجاعته التي لا تُقهر، والتي تنقلب حسب تقلب المعارك، وتتغيّر بتغير المواقف، ففي الوقت الذي يبرُز فيه الأبطال الشجعان المغيرين على قبيلته، فيجبُن الناس عن ملاقاتهم لتحقق الموت، ويبقى المبارز في الساحة يطلب له قريناً من بني عبس فلا يجد، يخرج عنترة قادماً من بعيد متحدياً هذا البطل، مُنازلاً له، ويرسم لنا في شعره صورة ذلك اللقاء، كما يُعطينا فكرة عن تلك المعركة، وهو منصف حين يُضفي على خصمه صورة الشجاعة والبطولة وخوف الناس المستحق منه، وبُعدهم عن لقائه، فيقول:

ومُدَّجّجٍ كـَرِه الكُماةُ نِزالهُ *** لا مُمْعنٍ هربًا ولا مُستسلمِ

ثم يتحدّث عنترة كيف قضى على خصمه بطعنة سريعة واسعة الأطراف تنزف بالدم، وتهدي السباع بصوته فتنوشه وتأكل لحمه:

جادَتْ يدايَ له بعاجِلِ طَعنةٍ *** بمُثقّفٍ صدْقِ القناةِ مُقوَّمِ

وتركتُه جَزْر السباعِ يَنُشنَهُ *** ما بينَ قُلَّةِ رأسهِ والمِعصَمِ

ولطالما كرّر عنترة في شعره أنه أقوى من غيره من الرجال الذين لا يستطيعون حماية نسائهم، وأنهم مهدّدون بالموت، ونساؤهم مهددات بالسبي، فهو يستطيع أن يقتل غيره من الرجال، ولكن غيره لا يبلغ شجاعته ولا ينال منه، فهو قادر كل وقت على حماية زوجه وروحه وأقاربه ومحارمه، في حين أن الآخرين، من قبيلته كانوا أم مِن غيرها، لا يملكون قدرته ومنزلته!

وفي قصيدة له يصور لنا كيف أن مجموعة من الفرسان أغاروا على بيت من بيوتات العرب، فهرب الرجال، وأن امرأة كادت تُلقي بيدها إلى الأسر، بيد أنه سارعَ فأنقذها وردّ عنها الخيل العاديات، وجعلها تحيا عزيزة مكرّمة؛ إذ يقول:

ومُرْقصةٍ رددتُ الخيلَ عنها *** وقد همَّتْ بإلقاءِ الزِّمامِ

وإذا كان عنترة يبرز دفاعه عن محارمه وحلائله، وحتى عن الغريب المستضعف، في وقت يفر فيه الرجال عن ملاقاة الأبطال، فإنه لا يتوانى عن تذكير ابنة عمه وحبيبته عبلة بنت مالك بهذه الحقيقة؛ فهو قاتل الأبطال، وقامع المدججين، وأشهر أبياته في ذلك:

هَلّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ *** إنْ كُنتِ جاهلةً بما لم تعلَمي

إذ لا أزالُ على رحالةِ سابحٍ *** نَهدٍ تعاوَرَهُ الكُماةُ مُكلَّمِ

يُخبرْكِ من شهِدَ الوقعيةَ أنّني *** أغشَى الوغى وأعفُّ عندَ المغنمِ

ومن هنا، فعنترة دائم الإقدام في مواجهة الأبطال، في الغارة كان أم في الحرب والنزال، غير هيّاب لأي بطل من أبطال الوغى وأحيائها، لا يرى إلا الإقدام في مواجهة الإقدام، والسيف في مواجهة السيف، والدم في مواجهة الدم، فنزف بنزف، وسيف بسيف، وقتل بقتل، يقول:

لما رأيتُ القومَ أقبلَ جمعُهم *** يتذامرونَ كررتُ غير مُذمّمِ

مازلتُ أرميهم بثُغرةِ نحرهِ *** ولَبانه حتى تسربلَ بالدّمِ

فارس في ميدان الحب!

وإذا كان عنترة الفارس الذي لا يُشق له غبار في ميدان القتال والحرب، وقتل الفرسان والأبطال بلا تمهّل ولا اصطبار، كالسيل الجارف بلا مقدمات، فهو في ميدان الحب والغزل لا يتمهّل ولا يورّي ولا يعرف التلميح، إنه صريح كسيفه في اصطياد رقاب الأبطال، وفي الغزل أشد صراحة حين يهيم بعبلته بلا مواراة ولا خوف من لائم، فتخلُد قصتهما في ميدان الحب على مر الأزمان والأجيال، حتى اقترن عنترة بعبلة في أذهان الصغار فضلاً عن الكبار!

فإذا غابت عبلة عن الأنظار، وابتعدت الديار عن الديار، وانصرف كل قرين إلى حال سبيله؛ فإن ناراً محرقة تكاد تضطرم في قلب عنترة، فيقرر أن يزور أطلال حبيبته، وعند الأطلال تنهمر الدموع، وتتهيج المشاعر، فلا أفضل تعبيراً حينذاك من الشعر:

هل غادرَ الشعراءُ من مُتردَّمِ *** أم هل عرفتَ الدارَ بعدَ توهُّمِ

أعياكَ رسمُ الدارِ لم يتكلّمِ *** حتى تكلّمَ كالأصمّ الأعجمِ

ولقد حبستُ به طويلاً ناقتي *** أشكو إلى سُفعٍ رواكدَ جُثّمِ

يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلّمي *** وعِمي صباحًا دارَ عبلةَ واسْلمي!

دارٌ لآنسةٍ غضيضٍ طرفُها *** طوعِ العناقِ لذيذةِ المتبسّمِ

لقد ملكت عبلة قلب عنترة، واستحوذت عليه، وصارت الأقصوصة على ألسن العرب أن عبلة بنت مالك يهيم بها فارس فرسان بني عبس عنترة الكرّار، فهو لا يبغي سواها، ولا يرى غيرها، إلا أن ما يعوقه عنها ربقة العبودية، وتأخر الحرية، وازدراء السادات لسواد بشرته، ورغم ذلك يصرح عنترة بأن عبلة قد احتلت منه منزلة المحب المكرّم:

ولقدْ نزلتِ فلا تظُنّي غيرَه *** مني بمنزلةِ المحبِّ الـمُكرَمِ

ومن أجل هذا الحب الذي ملكه، وهو الفارس البطل، الذي تهابه الفرسان، يعود فيصر على أنه لا يرى غير عبلة، ولا يتمنى سواها، ولا يملأُ عينه إلا هي، قائلاً:

ولئن سألتَ بذاكَ عبلةَ خبّرَتْ *** أن لا أريدُ من النساءِ سواها

ثمة روايات تخبر أن عنترة تزوج ابنة عمه بعد نيله الحرية، لكن الثابت والأرجح أنه لم يستطع لذلك نوالاً، وأنه تزوّج بامرأة أخرى لم يُفض إليها بمشاعر الحب التي أفاضها على "عُبيلة" كما كان يدعوها، وظل الفارس فارساً محباً حتى سن الشيخوخة والكبر، فيخرج في إحدى الغارات على قبيلة طيء، ويهرب عنه الشجعان والفرسان، ويبقى وحيداً ساقطاً عن فرسه، فيلقى منيته على يد شاب من بني طيء لقّب نفسه بالأسد الرهيص القائل:

أنا الأسدُ الرهيصُ قتلتُ عمْراً *** وعنترة الفوارس قد قتلتُ

حينها تنتهي قصة فارس الحرب والحب، الذي أفنى عمره في ميداني القتال والغزل، وتبقى سيرته وشعره متوارثة عبر الأجيال والكتب، وقد آثرنا أن نقصّ حياته من خلال أشعاره لعلها تعيد إلى شبابنا اليوم مذاق ذلك الأديب التليد!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد شعبان أيوب
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط، له خمسة مؤلفات في التاريخ العباسي والعثماني والمملوكي وعشرات المقالات والأوراق البحثية، ويكتب في العديد من المواقع والدوريات
تحميل المزيد