هل نحن نعيش في حلم؟ إنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يُطرح فيها سؤال عميق كهذا، وليست أيضاً المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يحاول فيها العلماء والمفكّرون الإجابة عن هذا التساؤل ذي الأبعاد الفلسفية والدينية. فالسؤال بدأ مع الفيلسوف الصيني شوانغ تزو قبل أكثر من ألفي سنة، وربما قبله، سأقوم في هذه الكلمات بترتيب بعض الأفكار في هذا المجال، والتسلسل في عرضها، في محاولة للوصول لإجابة شافية ترضي الفضول وتُشبع شغف الإنسان لمعرفة الحقيقة.
الحلم واليقظة
الحلم كما نعرفه هو تخيّلات تحدث أثناء النوم، حيث يقوم الدماغ باستدعاء صور في الذاكرة بطريقة عشوائية، ويقوم بتركيبها، ليتم عندها تأليف مشهد قد يكون مفهوماً أو غير ذي معنى أبداً، وكما أن الأمور تُعرف بأضدادها، يمكن القول إن اليقظة هي نقيض الحلم. ونحن حين نصف حالنا خلال اليوم باليقظة فهذا الوصف هو بالنسبة للنوم أو الحلم. بمعنى آخر، نحن نجزم في يومنا أننا يقظون لأننا نقارن أنفسنا مع حالتنا خلال النوم، فعندما نرى أنفسنا غير نائمين نعتبر تلقائياً أننا في يقظة، فمن دون النوم أو الحلم لم نكن لنعرف اليقظة، أو نستعمل هذا المصطلح من أساسه.
تجربة أفلاطون وخداع العقل
قديماً، قدّم أفلاطون تجربةً تبيّن سهولة تعريض العقل للخداع، فلو قمنا بإبقاء مجموعة من الناس، منذ ولادتهم، في غرفة صغيرة مع مجموعة من الخيالات التي تنعكس أمامهم على الحائط، ولو تكلمنا مع الناس في الغرفة من وراء الحائط فسيعتقدون أن هذه الأصوات قادمة من الأشياء التي يرونها أمامهم (الخيالات). وبإمكانهم أيضاً أن يجزموا متأكدين من ذلك، فهم لا يعرفون شيئاً آخر في العالم غيرهم هم والخيالات التي يرونها معهم. فحدود العالم بالنسبة لهم هي هذه الغرفة الصغيرة، ولا بدّ أن تلك الأصوات آتية مما يرونه أمامهم. بهذه الطريقة نكون قد خدعنا عقولهم بكذبة صدقوها وآمنوا بها ولم يشككوا بها قطّ! ولكن ماذا لو كشفنا عنهم الحجاب وأخرجناهم من غرفتهم تلك إلى العالم الأكبر؟
إذا أخذنا العبرة من تلك التجربة فيمكننا طرح العديد من الأسئلة عن الكثير من المعتقدات التي كوّناها في حياتنا ضمن عالم المعرفة المحدود بين أيدينا، فلو كُشف لنا الحجاب عن عالم أكبر من المعرفة، كما كُشف في تجربة أفلاطون، هل من الممكن أن نبقى جازمين أن صفة اليقظة التي نطلقها على يومياتنا هي تامة ومطلقة؟ ماذا لو كانت يقظتنا هذه مجرّد حلمٍ لواقع آخر؟
الحلم الواعي
لنعُد إلى أحلامنا التي نعرفها، يحدث مع الكثير من الناس أن عايشوا ما يسمّى بالحلم الواعي. وهو حلم يدرك فيه النائم أثناء نومه أنه يحلم، وقد يبدأ بالتدخل في حلمه والتأثير فيه. في هذا النوع من الحلم يكون النائم واعياً بمشاعره وأحاسيسه، وفي الوقت ذاته يكون واعياً أنه يحلم.
في دراسة نشرت عام 2016، فإن 55% من البشر عايشوا الحلم الواعي لمرة واحدة على الأقل في حياتهم. بينما يختبر 23% من البشر الحلم الواعي مرة على الأقل في الشهر. يحدث مثلاً أن ترى في الحلم أنك تقرأ نصّاً معيناً فتشيح نظرك عنه للحظة، ثم تنظر من جديد فترى النص قد تغيّر، عندها، وأثناء نومك، تدرك أنك تحلم، وقد تتابع في حلمك أو تستيقظ.
إذا كان يحدث للنائم أن يحلم حلماً واعياً ويدرك أنه في حلم، أليس من الممكن الآن أنك تعيش حلماً وأنت مُدْرِك أنك في حلم لواقع آخر؟ فإن كنا ننام ونحن في الحلم ندرك أننا نحلم، فيمكننا تقبّل فكرة أننا الآن في حلم وأننا مدركون أننا نحلم.
ولكن إذا كانت حياتنا مجرد حلم فمن هو صاحبه؟ بمعنى آخر، لو نمت على سريرك وعايشت الحلم الواعي وأدركت خلال حلمك أن صاحب الحلم هو أنت، فخلال حياتك الآن وفي يومك من يكون صاحب الحلم الذي تعيشه؟ هنا من الممكن اللجوء للفلسفة الدينية علّنا نجد إجابة عن هذه الأسئلة.
المنظور الإسلامي
من المنظور الإسلامي، فإنّ الروح هي من المفاهيم التي استأثر الله بها، ولم يُطلع أحداً من خلقه عليها. ولو تابعنا مسار الروح منذ خلقها حتى يوم القيامة فإن الله خلق الأرواح كلها منذ بدء الخليقة، وأشهدهم ألست بربكم؟ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
ثم أنشأنا الله في أرحام أمهاتنا ونفخ فينا الروح التي خلقها منذ البداية (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ). وعند الموت تُسحب الروح من الجسد وتستقرّ في عالمها، ثم عند البعث تُنفخ مرة أخرى في نفس الجسد لتهيئته للحساب. عندها تحصل النشأة الأخرى (ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).
وهكذا، فإن الروح منذ خلقها حتى يوم القيامة تظلّ منفصلةً عن الجسد في عالمها الخاص. إلا في فترة معينة، وهي خلال حياة الإنسان تلتصق بجسده وتسمى نفساً، ثم من بعد ذلك تعود إلى عالمها فتنفصل عن الجسد، وهذا الالتصاق بالجسد هو اختبارٌ للروح لمعرفة مدى إيمانها والتزامها بالميثاق الذي شهدت فيه لربها يوم خلقها، وأشهدها (ألستُ بربكم؟). ومعلومٌ أن الله خلق الأرواح ونفخها في الأجساد، ليرى كيف تعمل (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فلحظة الموت هي لحظة انتهاء الحياة وانتهاء الاختبار معها. فتصعد الروح إلى عالمها حيث تستقر حتى يوم الحساب، في تلك اللحظة ينتهي دور الجسد. هذه اللحظة تشبه كثيراً لحظة الاستيقاظ من الحلم والعودة للواقع، فالموت هو لحظة استيقاظ الروح من حلمها والعودة لعالمها بانتظار الحساب.
ماذا تستفيد لو أدركت أنك تعيش في حلم؟ يساعد هذا الفهم الفلسفي للحياة في الإضاءة على أبعاد الوجود وفهم حقيقة الموت، حيث تصبح كل الأمور الدنيوية سخيفة بالمقارنة مع البُعد الأوسع للحياة، وسيُنظر للموت كيقظة من حلم، ولكنه حلم من نوع آخر، فعندما تستيقظ من حلمك في الدنيا تسترجع ما حلمت، وتتذكر كوابيسك السخيفة، ثم تمضي من دون حساب. أما عندما تستيقظ روحك من حلمها بعد الموت فستسترجع ما حلمتْه في دنياها وستحاسب على ما عملته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.