دائماً ما يكون شهرا مايو/أيار ويونيو/حزيران شهري الحسم بالنسبة لمشجعي كرة القدم؛ فذكريات سيئة وبائسة، وأخرى تاريخية ومفرحة في الشهر نفسه، ولكن في أعوام مختلفة. وكرة القدم في الأيام الأخيرة قد تكون قاسية على البعض، وكريمة وسخية في الأفراح مع آخر فازت جميع فرقه بكل البطولات، لذلك تجد على مواقع السوشيال ميديا في الفترة الأخيرة تبايناً رهيباً يمكن للجميع ملاحظته بين الأفراح والليالي الملاح وبين سرادقات العزاء والحزن.
ولكن من اللاشيء ومن العدم خرج لنا منتخب الأرجنتين بفوزٍ ببطولة هي الأولى من نوعها بديلة لكأس القارات، ما حدث في ليلة أمس لم يكن هو الطبيعي في مرحلة ما بعد مباريات المنتخبات، فتلك الاحتفالات التي لمت شمل أغلب عشاق الكرة لها كلمة سر واحدة وهي "ليونيل ميسي".
قبل أن نتحدث عن مستوى الأرجنتين الذي رأيناه في تطور أثبت لنا أن ما فعله ليونيل سكالوني، مدرب الأرجنتين، لم يكن مجرد حالة، ولم يكن فوزهم بالكوبا أمريكا لضعف المستويات أو بالصدفة، وقبل أن نتحدث عن الهبوط الحاد في منتخب إيطاليا وفشله في مصالحة الجماهير بعد عدم التأهل لكأس العالم، هنالك ما افتقده العالم لمدة عام كامل، لقد افتقد الجميع ميسي.
افتقدنا تلك الليالي التي يلعب فيها بالروح والحماس، تلك الليالي التي تنام فيها على سريرك وأنت تفكر كيف راوغ تلك المراوغة، وكيف مرر تلك التمريرة، مباراة كان عنوانها "والله زمان وبعودة يا ليو"، لقد مر الكثير والكثير على آخر مرة كان الحديث عن ميسي هو العنوان الأبرز، مر الكثير والكثير عن آخر مرة رأينا فيها الرقم 10 يعود لصاحبه، فبمجرد مرورك بجوار شاشة تُبث فيها المباراة وشاهدت لاعباً يحمل الرقم 10 يحني ظهره للأسفل يحسبه الجاهل انكساراً وفقداناً للحلول؛ تنتظر من المدافعين قطع الكرة منه بسهولة قبل أن يراوغك ويراوغ الشخص الذي يشاهد بجوارك، والمدربين وجامعي الكرات، والشخص الذي يقدم لك القهوة، التي تكاد تسقط من يده بعدما حرك ميسي جسده لليمين ثم اتجه لليسار في ظرف "ليو ثانية"، في تلك اللحظة تنسى ميولك الكروية، وتنسى لاعبك المفضل، وتترك كل آرائك حول انتهاء عصر ميسي ورونالدو، وتخرج منك كلمات الإعجاب التي لم تخرج منذ آخر مرة شاهدت فيها الليو ميسي.
مر الكثير منذ شاهدنا جمال الليو، منذ آخر مرة شاهدنا فيها تمريراته السريعة، والتحول بالفريق من الدفاع للهجوم، والتفافه بالكرة والتخلص من الضغط، ومراوغاته التي لن يمكنك إيقافه بعدها إلا بتمزيق رقم 10 من القميص، أو بحصولك على كارت أصفر، وسبّ ينالك من المدرجات إذا حاولت أن تمس الملك بسوء. ميسي بالنسبة للكثير هو صديق، وذلك الصديق غاب وطال غيابه، وعندما يغيب عنك من اعتدت وجوده أدركت قيمته، فعندما يعود بعدما طال الغياب ستعطي له المديح الذي يستحقه.
وإجمالاً ما قدمه ميسي في هذه المباراة يجعلك تشك فعلاً في قراره بالذهاب إلى باريس، وأنه كان بالفعل يحاول البُعد عن الإجهاد، وحمل الفريق على ظهره كما اعتاد في برشلونة، وكان ينتهي به الأمر دائماً في إجهاد تام بنهاية الموسم، وتقديم أداء مختلف مع المنتخب الأرجنتيني، ولكن ما يراه البرغوث أمام عينيه الآن هو الكأس الذهبية، ما يحلم به عند نومه هو كيف سيرفع الكأس في ليلة 18 ديسمبر/كانون الأول في الدوحة، يتخيل الهدف الذي سيسجله في النهائي هل سيكون من ركلة حرة أم بعد مراوغة 5 لاعبين، فتظل الجماهير تصرخ: ميسي ميسي، حتى نهاية المباراة.
لا يمكننا أيضاً أن ننسى ما نراه في منتخب الأرجنتين منذ بداية الكوبا أمريكا وحتى اليوم، ولمدة 3 سنوات وخلال 32 مباراة حافظت الأرجنتين على سلسلة اللا هزيمة. ليو سكالوني بالفعل بدأ الآن في حصاد الثقة التي اكتسبها هو ولاعبوه في الفترة الماضية؛ فبعد خصوم القارة الأمريكية أخذت هذه المباراة منحنى كبيراً بعد هزيمته لبطل أوروبا بثلاثية نظيفة، وفي أراضي إنجلترا وملعب ويمبلي الذي حمل عقدة للمنتخب الأرجنتيني، ولم تكن المباراة هزيمة فحسب، ولكن كانت "سيركاً" نصبته الأرجنتين على إيطاليا خصوصاً في آخر نصف ساعة في المباراة التي احترمت فيها الأرجنتين أن أغلب المواطنين لديها يحملون أصولاً إيطالية، واحترمت صلة الدم والقرابة، فاكتفت، رغم سيولة الهجمات، بـ3 دون رد.
وما نراه في ثبات في التشكيل وتنوع وانسيابية داخل المراكز الأساسية للمنتخب الأرجنتيني، وتبادل المراكز بسهولة، والتحول بين الهجوم والدفاع ما بين 353 في الهجوم إلى 542 في مرحلة الدفاع، التي تصبح حائطاً خرسانياً يمنع وصول أية محاولات خطرة على الحارس إيميليانو مارتينيز، الذي لم نشاهد أية كرات خطيرة أو أية تحديات عليه طوال المباراة.
كذلك ما يلاحظ بشدة في التنوع في عناصر منتخب التانجو هو أننا لم نشاهد فعلاً وجود عناصر احتياطية وأخرى أساسية، وأننا نشاهد تشكيلة أساسية يدخل عليها من دكة الاحتياط ديبالا وباريديس وسفاح مانشيستر سيتي القادم ألفاريز، وهم بالتأكيد سيكون لهم دورٌ مهم في العديد من المباريات القادمة، خصوصاً في كأس العالم، إذا استطاع سكالوني كسب ثقتهم واستطاعوا كسب ثقته في اللعب بالروح نفسها التي يلعب بها من في الملعب.
والمشكلة الوحيدة التي أصابت منتخب الأرجنتين بعد الحصول على البطولة هي "العشم"، وهو ما أصاب مشجعي الأرجنتين بشكل خاص ومشجعي الكرة بشكل عام بعد رؤية هذا الأداء، وإيمانهم بفرص الأرجنتين في الحصول على كأس العالم، وهذا ما سيمثل ضغطاً على "الليوهيْن" ليو ميسي وليو سكالوني، خصوصاً في وجود منافسين بقوى عظمى مثل حاملة اللقب فرنسا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا، وهو ما سيمثل تحدياً كبيراً لسكالوني في المحافظة على ثقة لاعبيه دون أن تكون زائدة عن حدها.
وتلك الذهبية بالذات ستكون مميزة بشكل كبير، فالبرغوث يريدها مهما حصل، وسيحارب عليها وسيقدم أداءً لم نرَه من ميسي من قبل، فهل سيجد كتيبة الأرجنتين في ظهره ويخرس ميسي الجميع وينهي كرة القدم؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.