النسل، الأبناء، الأطفال، الأحفاد، جميعها كلمات تصف حاجة واحدة لإنسان، وهي الحاجة للبقاء، التعطش للخلود، ربما قد لا ترى ذلك للوهلة الأولى، ولكن الإنسان يريد البقاء على هذه الأرض، ولأن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، يحاول الإنسان البقاء على ترابها عن طريق نسله الذي يحفظ اسمه وبعضاً من هويته وأفكاره وتربيته وبيئته.
لذلك لا خلاف على كون العلاقة الجنسية ونتيجتها الممثلة بالولادة والخلفة هي إحدى أهم نعم الله علينا، فبها نرضي بعضاً من تعطشنا تجاه البقاء والخلود في هذه الدنيا.
ولكن تخيل معي السيناريو القادم، حيث حُرمت أنت وزوجك من نعمة الحصول على الولد، لذا تقرران التوجه لعيادة خصوبة كما يفعل الكثير من الناس، وهناك يطمئنك الطبيب بأن مشكلتك ليست مستعصية، بل في الواقع هي مشكلة سهلة العلاج عن طريق ما يسمى الحقن المجهري، حيث سيأخذ الطبيب حيواناتك المنوية ويحقنها داخل بويضات زوجك ثم يعيدها إلى الرحم، ثم تأخذ عملية نمو الجنين اتجاهها الطبيعي ليمنحك الله في النهاية طفلك المنشود.
السيناريو السابق ليس سيناريو خيالياً بعيداً عن العقل والمنطق، بل سيناريو حقيقي يحدث كل يوم، لذا سأطلب منك أن تضيف إلى هذا السيناريو تفصيلة صغيرة، وفيها يقرر الطبيب عديم الضمير أن يستبدل حيواناتك المنوية بحيوانته المنوية ويحقنها داخل زوجتك، فتجد أن الطفل الذي قد ظننته طوال تلك السنين طفلك الخاص هو في النهاية طفل الطبيب.
قد تظن أن هذه التفصيلة الإضافية غريبة بعض الشيء، بل قد يرفضها عقلك، فلا يمكن أن يكون هناك بشر بهذا الشر، ولكن للأسف السيناريو بأكمله حقيقي حتى بتفصيلته الزائدة.
من هو دونالد كلين؟
دونالد كلين هو طبيب خصوبة متقاعد كان نشطاً خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في ولاية إنديانا، وخلال فترة السنين التي عمل بها كمتخصص بالخصوبة، قام دونالد بحقن حيواناته المنوية داخل عدد كبير من مرضاه الإناث دون معرفتهن ودون موافقتهن، ما تسبب في ولادة 94 طفلاً له على الأقل في أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية.
وقصته وقصة أطفاله البشعة يقصها علينا وثائقي "Our Father" التي أصدرته نتفليكس منذ يومين، حيث يبدأ الوثائقي رحلته مع امرأة تجري تحليلاً للحمض النووي، وحينها لصدمتها تكتشف عدة أقارب يشاركونها نصف الحمض النووي، فتتواصل معهم وحينها تكتشف هي وهم أنهم إخوة يتشاركون نفس الأب وهو الطبيب دونالد كلين.
كيف اكتشف أبناؤه حقيقتهم؟
جاكوبا بالارد، كانت تعيش حياة عادية، ولكن حياتها انقلبت رأساً على عقب حين قررت إجراء تحليل للحمض النووي، وحينها اكتشفت بواسطة قاعدة البيانات الخاصة بالتحليل وجود سبعة أقارب لها.
بالطبع قررت جاكوبا التواصل مع عائلتها من الأقارب والتي لم تعرف بشأنهم من قبل ذلك التحليل كي تحاول كشف السر وراء لغز وجودهم وحينها تكتشف الرعب الحقيقي، فتدرك أن أقاربها هؤلاء ليسوا سوى إخوة يتشاركون جميعاً نفس الأب، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فباستخدام قواعد البيانات الخاصة بالتحليل في الولايات المختلفة تكتشف أن عدد إخوتها في تزايد بمرور الوقت ما يضعها في موقف صعب أخلاقياً حين تقرر إبلاغهم بالحقيقة فتقول على حسب تصريحاتها في الوثائقي: "أعرف أنني حين أقوم بالاتصال بهم، سأفسد حياتهم بالكامل، لأن ذلك يقوم بمحو هويتك بالكامل".
فتقول جولي هارمون والتي اكتشفت أنها أخت لجاكوبا: "في واقع الأمر لا تمتلك أي فكرة بعدها عما تكون أنت في الحقيقة".
بالطبع يحتوي الوثائقي على مقابلات كاملة مع ثمانية إخوة من الـ94 طفلاً للطبيب كلين، ولكن بسبب عدم تعاون الطبيب المتقاعد الذي توقف عن ممارسة الطب خلال 2009، لا يمتلك أحد فكرة حقيقية عن عدد النساء التي قام بإخصابهن بحيواناته المنوية، وبالتالي لا يعلم أحد هل رقم الـ94 هو الرقم الحقيقي أم أن هناك أكثر.
الدافع وراء جريمته!
لا يعلم أحد حقاً الدافع وراء ما فعله الطبيب دونالد كلين، وهو بدوره لم يصدر أي تصريح حول جريمته، لكن بعض المتخصصين يقترحون أنه كان مدفوعاً بقناعاته الدينية، حيث يقال إنه متطرف مسيحي يؤمن بفكرة مسيحية متطرفة تأمر اتباعها بالتكاثر وإكثار النسل لوضع "المخلصين للرب" في مواضع القوة داخل هذا العالم.
والبعض الآخر من المتخصصين يظنون أنه مدفوع بالحقيقة بأيديولوجيا تفوق العرق الأبيض، حيث يرى نفسه نموذجاً مثالياً للإنسان الأبيض المتفوق فقرر بناءً على ذلك منح العالم كثيراً من ذريته المتفوقين مثله بدورهم.
بالطبع يسلط الوثائقي الضوء على مظاهر إيمان دونالد كلين الدينية بعدما قتل طفلة دون عمد في حادثة سير، وكيف كانت عيادته مليئة بالمظاهر والأيقونات المسيحية، وكيف كان يجعل موظفيه وممرضيه ومرضاه كذلك يمارسون الصلاة المسيحية جماعة.
العدالة المفقودة
حينما صعدت جريمة دونالد للسطح خلال عام 2015، قرر أطفاله وضحاياه من الأمهات والأزواج مطاردته قضائياً، وكان دونالد في ذلك الوقت يعيش حياة هادئة من التقاعد مدينة في إنديانابوليس، لذا قرر أبناؤه تحرير قضية ضده باتهامات تعادل الاغتصاب، ولكن كانت الإجراءات بطيئة بشكل ملحوظ.
وخلال الوقت الذي كانت تتحرك فيه تلك الإجراءات، كان دونالد يعيش كأحد أعمدة المجتمع وأحد رؤوس كنيسته المحلية، ولكن وجهه اللطيف ذلك تغير حين بدأ يكيل التهديدات لأبنائه غير الشرعيين، والتي وصلت بعضها للسرقة والتهديد بالقتل.
حين بدأت نتيجة الإجراءات القضائية بالظهور بشكل قضائي، وبدأت الدولة بإجراء تحقيقاتها حول جرائمه، كانت النتيجة مخيبة للآمال بشكل كبير، فلم يستطع الادعاء الحصول على الأدلة الكافية لاتهامه بالاغتصاب حين أخصب عشرات السيدات دون معرفتهن وموافقتهن.
وقال تيم دانلي الذي كان يعمل في مكتب المدعي العام خلال 2015: "لا أنكر أن ما فعله الطبيب دونالد كلين كان اعتداءً جنسياً، ولكن لا يمكنه وصفه بالاغتصاب بشكل قانوني".
ما سبب حالة من اليأس والغضب في نفوس كل ضحاياه الذين تدمرت حياتهم ولا زالوا يعانون آثار جريمته حتى هذه اللحظة.
"لقد تعرضت للاغتصاب 15 مرة ولم أكن أعلم ذلك حتى!".
قالتها ليز وايت إحدى مريضات الدكتور دونالد السابقين.
البحث عن العدالة
قرر بالطبع صُناع الوثائقي ومنهم المخرجة والمنتجة لوسي جوردان أن يقصّوا قصة دونالد كلين وأبنائه غير الشرعيين في محاولة منهم لإدانته شعبياً بعدما فشل القانون في محاكمته.
حيث حينما فشلت محاكمته بتهمة الاغتصاب، تمت إدانته بالفعل بتهمة عرقلة العدالة خلال عام 2017، وتم تغريمه 500 دولار بالكامل ولا يزال دونالد يعيش الآن حراً دون عقاب أو رادع قانوني حتى يمنع غيره من ممارسة نفس فعلته الشنيعة.
في النهاية، يقصّ علينا وثائقي "Our Father" قصة بشعة حول جريمة مرَّت دون رادع بسبب عجز النظام القضائي عن مطاردة مثل هؤلاء المجرمين وكشف أقنعتهم التي يصدرونها لمجتمعاتهم.
كما يسلط الفيلمُ الضوءَ حول الرعب الحقيقي الذي يكمن وراء طب التخصيب الذي يتم ممارسته الآن بشكل تجاري دون رادع قانوني لمثل هذه الحالات، التي قد يتصور الإنسان استحالة حدوثها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.