نجح رئيس مجلس النواب نبيه برّي بتجاوز التحدي في عودته إلى رئاسة المجلس للدورة السابعة، في معركة مع الأوراق البيضاء والملغاة، وهو الذي كان يستمع إلى كلمات كتبها نواب قوى التغيير، وهو ونواب حزب الله لا يفضلون سماعها؛ لارتباطها بحبل الاتهام المستمر، كـ"لقمان سليم"، و"العدالة لضحايا شرطة مجلس النواب"، و"العدالة لشهداء تفجير المرفأ".
وبشق الأنفس، تجاوز برّي انتخابه لدورة سابعة لرئاسة المجلس النيابي، بأكثرية هزيلة وبفارق صوت واحد، بعدها أعلن نبيه برّي رئيساً للمجلس في سنته الثلاثين بهذا الموقع، حائزاً على 65 صوتاً؛ وهي المرّة الأولى التي ينال فيها الرجل هذا العدد القليل من الأصوات، وهو ما يؤكد حصول تغيير كبير في المزاج الشعبي والنخبوي وإعلان مرحلة جديدة قوامها معارك مفتوحة بفارق الصوت والصوتين في برلمان الأزمات والتحديات.
لكن الرجل نجح في عدم تكرار ما حصل في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون في 2016، حين أعيدت جلسة انتخابه ثلاث مرات ليؤمّن فوزه، حيث كانت هذه الفاجعة لبري، لو حصلت، لكن الاتصالات التي قادها حزب الله حتى ساعات متأخرة من ليل الثلاثاء أمّنت لبري فوزاً من أول دورة، واكبتها حركة اتصالات قادها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مع النواب السُّنة المحسوبين عليه في عكار وبيروت والبقاع.
لكن الأكيد أنه لا أكثرية ثابتة في المجلس الحالي المنتخب، بدليل أنّ إعادة التجديد للرئيس نبيه بري مرّة سابعة احتاجت إلى مشاركة وليد جنبلاط أولاً، وإلى خرقٍ عمل عليه حزب الله والنائب إلياس بوصعب من التيار الوطني الحر، وإلى دعم بعض النواب (غير نواب عكار ونواب بيروت المحسوبين على المستقبل)، فيما انتخاب إلياس بوصعب نائباً لرئيس المجلس فرضَ معادلة بتركيبة مختلفة، قامت على تحالف الحزب وأمل والتيار العوني وبعض المستقلين أيضاً الذين تمّ تجميعهم على نحو فردي، من هنا وهناك.
وعليه، فإن المعركة الانتخابية على موقع نائب رئيس مجلس النواب، وفي السياق السياسي للمعركة المفتوحة في المجلس النيابي، نجح حزب الله باتصالات وضغوط على حلفائه بجمع 65 صوتاً لنائب الرئيس إلياس بوصعب، وأراد حزب الله انتزاع الأكثرية ولو بمقعد هزيل لتحقيق نصر سياسي ومعنوي يمكن أن يبني عليه للمرحلة المقبلة.
في المقابل، فإنّ خصوم الحزب بإمكانهم أيضاً أن يبنوا على 60 صوتاً لغسان سكاف مع 3 أوراق أخرى، اثنتان منها بيضاوان، وورقة ملغاة؛ لذا يمكن لتوازنات المجلس الحالي أن تغيّر المعارك والاستحقاقات المقبلة بناءً على نوع المعركة وماهيتها وسياقاتها وعناوينها، وابتداءً من معركة تشكيل الحكومة المقبلة والتي ستدير مرحلة الفراغ الرئاسي ريثما تنضج الظروف الدولية الإقليمية لانتخاب رئيس وفقاً لتوازنات الشرق الأوسط؛ لذا أراد الحزب تكريس معادلة يمكن له استنساخها في معركة تسمية شخصية لرئاسة الحكومة وفرض آليّة تشكيلها. فيما يمكن لخصومه أن يتقاربوا أكثر لحرمانه من الخمسة وستّين صوتاً التي نالها بوصعب وحظي ببعض منها بناء على علاقات وحسابات شخصية مع الرئيس نبيه برّي أو إلياس بوصعب شخصياً.
بالمقابل، نجح برّي في فرض تسوية أنتجت انتخاب هيئة مكتب المجلس وفقاً لـ"ستاتيكو" النظام السياسي القائم على المحاصصة المذهبية والطائفية. سوى ذلك، سيواجه برّي صعوبة كبيرة في إدارة الجلسات. والدليل قوله أكثر من مرّة إن معظم الأمور كان يتم التوافق عليها. لكن الوضع تغيّر اليوم. وهذا يشير إلى أن برّي لم يعد قادراً على نسج التفاهمات التحالفات خارج الجلسات، وتطبيقها في جلسات البرلمان وتنزيلها على الحكومة والقوى السياسية.
بالتوازي تبدو لنتائج الانتخابات ملامح تغييرية ستنعكس على المعادلة السياسية في لبنان، بدءاً من الحشد الأسطوري لتأمين أصوات انتخابية لبري والذهاب لمرحلة عنوانها نسف مخرجات اتفاق الدوحة في 2008 وما نتج عنها من تسويات سياسية وخروقات دستورية من التوقيع الثالث، وليس انتهاءً بمعادلة الأقوياء في طوائفهم، والذي ترجمته السنوات الأخيرة لمصلحة الحزب. والأهمّ من ذلك أنّ الحزب أصبح في واقع يحتاج فيه يوميّاً إلى مناداة النواب الجدد، ونواب مستقلّين عنه وعن القوى السيادية.
وبعضهم في قلب الكتل السيادية، إلى الالتقاء معه على تفاصيل داخلية تتعلّق بالسياسة اليومية وبالاقتصاد وخطط الإصلاح وحل أزمات مزمنة في الكهرباء والماء والاتصالات، وهو مسعى مرده حجب أنظارهم عن النقاش في موضوع السلاح والصواريخ والارتباطات الإقليمية، وبالتالي يسعى الحزب إلى تأجيل السجال في موضوع السلاح، كما طلب أمينه العام؛ كي يُبقي على تكريس المعادلة الذهبية لحزب الله التي عنوانها الأساسي: "الجيش والشعب والمقاومة" في البيان الوزاري، والتي قد يلتقي معها بعض النواب المستقلين، لكنّ هذا الأمر سيكون صعباً في المستقبل.
بالتوازي وفي عمق الأزمة المستمرة، ثمة سؤال يجري نقاشه همساً في أروقة الصالونات السياسية والأمنية وعنوانه الأساسي هو إذا ما كان الارتطام المقبل سيكون مترافقاً مع اهتزازات أمنية عنيفة تترافق مع فوضى غير مضبوطة، ويغلب خصوم الحزب الخارجيون وتحديداً الأمريكيين والسعوديين أن حزب الله متفوِّق بقدراته الأمنية والعسكرية، وأنه الأقوى في أي مواجهة أمنية أو عسكرية بينه وبين القوى الأخرى في لبنان، وتحديداً القوات اللبنانية.
لذا فإن الأداء الأمريكي والغربي ومعه الدول العربية المتحالفة باتوا وبعد الأزمة السورية أكثر ميلاً لممارسة الضغوط السياسية والمالية والاقتصادية على لبنان عبر عقوبات مفتوحة على حزب الله وحلفائه، وتحديداً باسيل وفرنجية، ويرفضون الذهاب بتلك الضغوطات لحد زعزعة الأمن وضرب الاستقرار. وهذا النموذج هو الذي اعتمد بدعم الحراك المدني في العام 2015، ومن ثم ثورة 17 تشرين عبر إحاطة الثورة بدعم معنوي يقابله دعم مباشر للجيش والقوى الاستخباراتية، في إطار واضح أن الثورة يقابلها الحفاظ على المناخات الأمنية والاستقرار، وهذا الأداء أنتج "عقلنة" للأداء الشعبي والثوري.
في المقابل، فإن الإيرانيين ومعهم حزب الله كانوا واضحين في التحذير من أي انهيار لمنظومة الاستقرار في لبنان، في ظل سيطرة الحزب وحليفه في القصر الجمهوري على خيوط اللعبة، لكنّ هذا الحذر لم يُلغَ من عقلية حزب الله بالسماح لنفسه بهامش معيَّن من اللعب بالورقة الأمنية، عندما يجد نفسه مضطراً لذلك لترجمتها في السياسة. وهذا ما فعله هو أيضاً بعد 17 تشرين، عندما سمح بأن يقوم مناصروه بالاعتداء على المتظاهرين في خيم الثورة وتنظيم تظاهرات في نقاط ذات حساسية طائفية ملوحاً بالاستقرار والورقة الأمنية.
ومن هنا ستكون المعركة المفصلية بالنسبة إلى حزب الله والتيار العوني في تكرار تجربة تأمين 65 لرئيس الحكومة والثقة حول حكومته، في المقابل تفرض المعركة على خصوم الحزب من القوات والكتائب ونواب قوى التغيير والمستقلين في إنتاج قوة معارضة لسياسات الحزب وتدخلاته وتغوله. أما المعركة الأكبر فتبقى مؤجلة إلى موعد انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة انتهاء الأزمات النازفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.