“الزهد الكاذب”.. كيف يستخدم المستبدون علماء السلطة لتبرير الفقر والأزمات الاقتصادية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/01 الساعة 13:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/01 الساعة 13:43 بتوقيت غرينتش
وزير الأوقاف محمد مختار جمعة في ندوة عن "تجديد الخطاب الديني"/ رويترز

(المال سلاح المؤمن في هذا الزمان).. سفيان الثوري.

(الزاهد هو المُعرِض عمّا عنده لقلَّة شأنه لديه، والزهد أن يكون المال في يدك لا في قلبك).

إذا تتبعنا مفردات هذا التعريف فسوف نصل إلى حقيقة أن الزاهد ينبغي أن يمتلك ابتداءً ما يزهد فيه من حيث الأصل -أو على الأقل لديه القدرة على الوصول إليه- ثم يتخذ بعد ذلك قراراً داخلياً شخصياً بالإعراض عنه وتحاشيه، فلا يُتصور عقلاً أن يُعرض إنسان عما لا يملك، فكيف يُعقَل مثلاً أن يسمى الأعمى زاهداً في النظر؟! أو الأبكم زاهداً في الغناء؟! أو الأصم زاهداً في السماع وخلافه؟! وبالتالي لا يسمَّى زاهداً في المال إلا من يملكه أو يملك إمكانية الحصول عليه، كما لا يسمى زاهداً في السلطة من لا يملك القدرة أصلاً على التسلط أو القيادة. فالزاهد هو المُعرض عما عنده. تأمل: (عنده). والزهد أن يكون المال (في يدك)، تأمل: (في يدك)، أي (عنده) مال، وهو بعدُ كائنٌ (في يده).

فالعجز عن الكسب ليس زهداً مطلقاً، والزاهد ليس عاجزاً، وإنما هو شخص قادر، لديه أهلية كاملة للتصرف والقدرة عليه، لكنه أعرض زهداً وترفعاً، إلا أن الموروث الديني والثقافي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية -والعربية خاصة- قد رسّخ في عقولنا بصورة ساذجة -مدفوعاً أحياناً من السلطة الحاكمة- رسّخ مفهوماً مشوَّهاً عن الزهد، مفاده أن الزاهد هو "الفقير" الذي لا يملك شيئاً، فنتج عن ذلك أن يتفاخر العاجزُ عن الكسب بتسمية نفسه زاهداً في الدنيا، معرضاً عنها، مترفعاً عن دناياها، وهو في الحقيقة لو أشارت له الدنيا من خلف الحُجب لأقبل إليها مهرولاً يسيل لعابه.

عزيزي الفقير العاجز: أنت لست زاهداً أنت تخدع نفسك وتبرر عجزك بادعاء الزهد، هكذا برمجوا عقلك!

لقد رسّخت تلك الموروثات كذلك لدينا أن الغباء والكسل وبلادة العقل زهدٌ، ومدعاة لفخر صاحبها، على اعتبار أنه فضّل طواعيةً أن ينزوي بعيداً عن صراعات الكراسي والتطلعات والمناصب والأموال، وهو في الحقيقة مجرد عاجز أو كسول، أقعدته قدراته عن المنافسة وتحقيق النجاح، إن الزاهدين الحقيقيين في السلطة، هم مثلاً الأنبياء وأشباههم، عُرضت عليهم السلطة والجاه فأعرضوا عنها، سووموا على الملك بالمال والذهب للتنازل عن عقيدتهم فرفضوا وفضّلوا ما عند الله.

الخطاب الدعوي الموالي للسلطة يرسخ الفكرة

استطاع الخطاب الدعوي الدائر في فلك السلطة في أكثر من دولة عربية في العقدين الماضيين، أن يهيئ المجتمعات للمستبدين بمثل هذه الدعاوى، لقد دندن الدعاة الذين لم يفطنوا لحقيقة الزهد -أو فطنوا فبدَّلوا- دندنوا حول مفهوم (الزهد الفقريّ)، هكذا بكل بساطة؛ أن الفقر هو حقيقة الزهد التي ينبغي أن يسعى إليها الجميع، في حين لا تتمايل ألسنتهم في أفواههم بفضائل الغنى، إلا أمام الرأسماليين العُتاة، الذين يغدقون عليهم الهدايا من هنا أو هناك، وهذا غاية التبديل والتدليس.

والخلاف حول مسألة: من الأفضل؟! الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟! كانت توظَّف فيه الآراء حسب الجمهور الذي يوجَّه إليه الحديث، فإن كان على شاشات التلفاز، أمام المشاهدين المساكين من عامة الشعب، الذين يعانون الأمرّين من فساد السلطة واستيلائها على أموالهم فالفقير الصابر لا شك أفضل، ويتعمد الدعاة النجوم، الذين توظفهم السلطة، ليَّ أعناق النصوص، وتبنّي الرأي الذي يخدِّر آلام الناس ويخدع عقولهم، ويقنعهم بأنهم على الطريق الصحيح، وأن عليهم أن يشعروا بالامتنان للسيد المبجَّل الذي أوصلهم إلى هذه الحالة من الانتشاء بالفقر.. نعم، هكذا!

وإن كان الخطاب موجهاً لأرباب القصور والفيلات والشاليهات الفاخرة، والجمهور من رجال الأعمال وأصحاب الأموال والمناصب الرفيعة، والرأسماليين غلاظ الأكباد، فالغني الشاكر بالتأكيد أفضل؛ فجانب كبير من شكرهم لله، زعموا أن يهادوا داعية السلطة هذا بالهدايا الثمينة، أو يتبرعوا لجمعيته لإنشاء المشروعات التي تصب في النهاية في حجر صاحب الكلمة الغشاشة، أو تسهيل مصلحة له بالوساطة والمحسوبية، فالغنى هنا له قيمته وفضله الذي لا ينكَر!

وبناءً على ذلك بات ذلك البائس الفقير يستشعر أنه حقق إنجازاً أُخروياً -بأن صار زاهداً/فقيراً كبيراً- ولم يعد يشكّل الآن خطراً من أي نوع على السلطة الحاكمة؛ بل على العكس تقرّرت في دواخله حالة متضخمة من التبعية والامتنان للمستبد، بأن أسدى إليه معروفاً كبيراً وأبقاه على حالة الزهد -بمعنى الفقر- التي يفتش عنها لتكون ضمانة له للتقلب في جنة الآخرة، هكذا بلا شعور منه، ينطلق عقله الباطن في استحضار ورسم صورته الأخروية المتحولة من الزهد/الفقر إلى المتعة اللامتناهية، ضارباً عرض الحائط بما يوجبه عليه حال المستبد من الثورة والاحتجاج، يمنّي نفسه بالمستقبل الأخروي، ضارباً بكل عزمه الأمل في الاغتناء والقضاء على الفقر والعوز، معلناً بلسان الحال: أنا العابد الزاهد، لا حاجة لمقارعة المستبد، وهذا مما يسعد السلطة ويسرّها للغاية.

إن علماء السلطة والدعاة الزائفين المغرضين، شركاء للمستبد في ترسيخ استبداده بتشويه مفهوم الزهد في عقول الشعوب، وهم أداة من أدوات مراكز دراسات السلطة، تستخدمها للتأثير في المطحونين للرضا بالأمر الواقع المزري، بل واعتباره غاية كبرى يتطلعون للوصول إليها.

هل الفقر واعتزال السلطة إرادة شرعية؟

ولعل بعضنا يتساءل: هل يطالبنا الله بأن نكون فقراء عالة يتحكم فينا الرأسماليون الفاسدون أحسنوا أم أساؤوا؟! أم يطالبنا بأن نكون أصحاب نفوذ اقتصادي قوي، يحرّك الأحداث، ويوجّه بوصلة الحياة؟ هل يطالبنا بأن نترك السلطة بأيدي المتعجرفين القساة، ممن لا يقومون بموجبات القيادة الحقة من العدل والإحسان إلى الخلائق، بدعوى الزهد فيها والنأي بالنفس عن الصراعات؟! فيما نتوقع دائماً وننزوي في زاوية رد الفعل الخائبة؟! أم يطالبنا بمزاحمة المستبدين بقيمنا العليا لإزاحة الظلم وإفشاء العدالة والرحمة؟

الزهد ليس استكانة ورضا بالفتات المغموس في أطباق المذلة؛ الزهد قرار، والفقير الضعيف لا يملك القرار، فكيف يكون زاهداً؟ إن الزاهد هو من يُلقَى المالُ والسلطةُ تحت قدميه فيركلهما إلى غير رجعة، لا الذي فقد قدميه، فلا يسير ولا يركل!

لقد برّر الدعاة المغرضون للمستبد الفساد، والأزمات الاقتصادية، وغلاء الأسعار، بدعوة البؤساء إلى مزيد من الزهد في الدنيا ومزيد من الفقر والبؤس والانزواء، وبعتابهم على توسعهم في الإنفاق على الطعام والشراب والملبس، رغم أوضاعهم البائسة وأحوالهم المهلهلة، وإدانتهم بأن ذنوبهم هي السبب في إنزال عقوبات الغلاء والضنك وشظف العيش.

وقد يكون هذا مقبولاً بصورة جزئية، لكن أين الجزء الآخر الأكبر من الصورة، الذي يتربع فيه المستبدون على عرش الفعل الآثم والفساد والاستغلال؟! لماذا يتعمد علماء السلطة إخفاء هذا الجزء من الصورة؟! وبدلاً من أن يلوموا القاتل الظالم يوجهون سهام التأنيب إلى المذبوح بسكين الاستبداد والجشع، صارخين: ويحك، اقتصد، حتى لا تفقد مزيداً من الدماء!

وأخيراً..

المال وسيلة الزاهد في تحقيق أهدافه، لا في قضاء أوطاره، أو إشباع نزواته، فـ(نِعم المال الصالح للرجل الصالح)، و(نِعم العون على طاعة الله: الغِنى)، فالمال خادم صالح، يصان به العرض، ويُتقرَّب به إلى الرب، وهو سلاح المؤمنين في هذا الزمان، وهو زينة الدنيا وبهاؤها الذي يضفي عليها نكهة البهجة والألق.

أما الفقر فما ضُرِب العبادُ بسوطٍ أوجعَ منه، فهو كنز البلاء، ومبعث الشقاء، وهو موت أحمر متلفّعٌ في ثوب أسود، يسكنه الخضوع والخنوع والمذلة؛ فالفقير خفيض الصوت، زائل المهابة، قليل الحيلة، ضعيف القلب، ممحوّ الأثر، أول من يُضطَهَد، وآخِر مَنْ يُرتجى، إذا نزل بقوم لم يأبهوا له، وليس موضع تأثير ولا تغيير؛ لذا فهو ابتلاء مثل أي ابتلاء آخر؛ يستدعي من الفرد الاستعاذة والصبر ومحاولة الدفع، لا الفرح به، والسعي إليه.

قال بعض الحكماء: (إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان ظنه به حسناً، وما من خُلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب، فإن كان شجاعاً سُمِّي أهوج، وإن كان جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لَسِناً سمي مِهذاراً، وإن كان صَمُوتاً سمي عَيِيّاً. فالموت أهون من الفاقة التي يضطر صاحبها إلى المسألة لا سيما من البخيل).

فامتلكوا أموالكم أولاً وحوزوها في أيديكم ثم ألقوها في البحر بعد ذلك إن شئتم، واقتنصوا حقوقكم من حلق المستبد، ثم أحرقوها أو طؤوها بأقدامكم، لا يهم، لكن لا تدعوا المتسلطين يستمتعون بها ويستخدمونها في مزيد من التسلط عليكم وإذلالكم بدعوى الزهد والإعراض عن الحياة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد الغباشي
أديب مصري وباحث في الدراسات الإسلامية
المدير التنفيذي ورئيس تحرير منصة "رواحل" حالياً، ورئيس قسم الإصدارات والبحوث بمؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية "راف" سابقاً.
تحميل المزيد