"هذا العالم يزداد جنوناً يوماً بعد يوم"، هكذا أعبِّر عن رفضي، وقلقي، واستغرابي من كمّ التقنيات المستخدمة حديثاً لتغيير أو تحويل شكل الإنسان، ولا أتحدث هنا عن عمليات التجميل التي كانت محل جدل لسنوات طويلة ماضية، الضروري منها صحياً كالترميم بعد الحوادث، والمستخدمة لجعل الأنثى أكثر أنوثة حسب مقاييس الجمال المفروضة علينا إعلامياً.
ولكن ما يثير دهشتي حقاً في الأيام الأخيرة "التقاليع"، على رأي جدتي أو "التريندات" باستخدام مصطلحات عالم التواصل الاجتماعي: "جبتلكن تمارين للحنك.. حتى يصير وجكن مثل أنجيلينا جولي"، لماذا عليّ أن أمرن حنكي ليصبح شيئاً آخر ليس عليه، وهل هذا ممكن حتى؟ أليست عظام الفك كجميع العظام غير مرنة، أي لا تتغير إلا حين انكسارها؟
يسعى الجميع متلهفين وراء حُقن وتمارين وعمليات تجعلهم كل شيء عدا ذاتهم الأصلية، فتبدل صورة جسدهم باستمرار، ويشعر الآخرون، أي الذين يشاهدون هذا الجنون من خلف النوافذ الإلكترونية الزجاجية، بحاجة للتشتت؛ لذلك من الجيد نفسياً السعي وراء التصالح مع هذه الصورة، وأن نكون في شكل يرضينا. ما دُمنا نملك القدرة والحرية لفعل ذلك، فما أراه من خلف الزجاج نفسه، نظرة مكسورة تقول: هل يحق لوجهي أن يعيش حتى؟ فبينما يسعى نصفنا لفعل كل شيء ليزداد جمالاً، لا حق لإسراء الجعابيص، الأسيرة الفلسطينية في سجون الاحتلال، لاسترداد وجهها الأصلي ولا أصابعها الثمانية.
في عام 2015 توقفت عربة إسراء عن العمل قرب حاجز للاحتلال، اشتبه الجنود بنيتها في تنفيذ عملية، فحبسوها داخل سيارتها التي سرعان ما هبَّت فيها النار بسبب عطل في المحرك، تعرضت إسراء لحروق من الدرجة الأولى والثانية والثالثة. وتحولت يدها، التي كانت تستخدمها في مساعدة المسنين والتهريج لإسعاد الأطفال، منهم ولدها الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات اليوم، إلى فراغات خالية من ثمانية أصابع.
حين أنظر إلى المرآة بعد كل خبر من إسراء، لا أسمع صوت جنون العالم، بل أسمع صوت إسراء الرافض للنظر في المرآة. من هي هذه المرأة حقاً التي نتشارك صورها؟ ربما أرادت يوم الحادث الذي غيَّر سير حياتها أن تشتري لباساً جديداً، أن تزور مصفف الشعر، أو أن تنقاد وراء إعلانات مراكز التجميل وتُحدث تغييراً جذرياً في شكل وجهها، لكنها لم تتخيل يوماً أن يسرق منها ذاتها بالكامل.
إسراء الأم والأخت والابنة، امرأة فلسطينية في أول الثلاثين من عمرها تحتاج رعاية صحية مكثفة وعشرات العمليات؛ لكي تتوقف أوجاعها فقط ويعود جسدها لعمله الطبيعي، وعشرات العمليات الأخرى ربما لكي يعود هذا الجسد شكلياً إلى ما كان عليه سابقاً. يمر ذكرها كضيف خجول بين أخبار الصحف الكبرى في عالمنا العربي والخارج، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي رغم استمرارية الحملة التي تقودها أختها والتي تهدف للنظر في قضية إسراء وتأمين العلاج الضروري لها.
وقد يكون سبب سكوتنا عن جريمة عظيمة كهذه مع الوقت أننا نعتاد الصور، لا تؤثر بنا قباحة جريمة الاحتلال بحق أسيراتنا كما فعلت في أول مرة. في الوقت ذاته، نحن لا نعتاد أبداً جرحاً فوق خدنا أو أثر حرق على كتفنا، سينتابنا شعور بضرورة إخفائه دائماً، لا أحد منا يود أن يعيش مع ندوبه. فبعيداً عن أن خارجنا يملك سلطة كبيرة على ما يدور داخلنا، فإننا أيضاً لا نريد امتلاك تذكار أبدي من أسوأ لحظات حياتنا ألماً.
بالتأكيد، فإن هذا ليس ما تريده إسراء الجعابيص، مع عدم استجابة الاحتلال للمطالب الدائمة بخضوعها للمداخلة الصحية اللازمة لحالتها، دون أن نتطرق أيضاً لاشتياقها لولدها الذي يعيش اليوم مع جدته وخالته. ما تريده وما نريده حقاً لإسراء الحرية العاجلة، ومعجزة بأن يكون لهذا العالم المجنون أدوات وتقنيات متطورة قادرة على إعادة إسراء إلى ما قبل الحادث في ساعة حتى لا ترتاد الطريق نفسه، أو أن يعاد لها وجهها وصحتها وسنين عمرها مع أول خطة لها خارج باب السجن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.