النكبة المصيبة والمحنة العظيمة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر، وأصلها أن المنكوب يتعثر بحجارة الطريق فيدمى ويرهق، ويبذَعِرّ الألمُ بوطْأته حتى يقال له على سبيل الدعاء: نَعَشَكَ الله من هذه النكبة!
بدأت النكبةُ عندنا مصيبةً أذهلتْنا، وفاجعةً رمَتْنا؛ ثم لمّا عرفناها وعرفتْنا، بدأنا نهمس بها، ثم نصوّت بذكرها، ثم صرخنا بجلجلة مدوية معترفين بها وناوين ذبحها!
عرفنا سرّ النكبة!
لم تعد النكبة موحشة فقد كشفت أحسن ما فينا وأسوأه فامتاز الناس، ووضحت الهوية، وعرفنا الأُنسَ بانكشاف العوار.
وأخذنا الأهبة بعد وقوع النكبة، وعلّمنا انكسار الجرّة ألا نسقطها مَرّة، فلا يعلم وجع النكبة إلا من ذاق مرارها وأحسّ أذاها، ولسنا في وارد الموت في حبها، فقد تعلّمنا أيضاً أن تشتدّ كراهيتنا لها ولمن تسبب لنا بها، فصرنا خليقين بالنكبة، وجديرين بالمحنة، وحريّيين بالمصيبة على جهة التعالي عليها لا الضراعة والاستسلام لها؛ فلذلك نحيي ذكراها، ونظهر وجعها، لتشتدّ نفوسُنا، وتقوى عزائمنا، وتُمضَى سيوفنا، وهو ما قاله الرافعي قديماً: "ربما تكون النكبة مذهباً من مذاهب القدَر في التعليم!"؛ وتذكرتُ قول نابليون: "عرفتُ وطني في ثورة الغضب، وأحببتُه في ساعة النكبة".
ليستِ النكبةُ عاراً إِن تكنْ … حافزاً للنصرِ سعياً وعملْ
وواسعُ الحيلة من تؤدّبه نكبته، وتهذّبه مصيبته، وتيبّس أديمه الطريّ، فيكون مِراسُه على من أصابه بالنكبة صعباً، وشكيمته أشد، فلتحذر إسرائيلُ منا فلسنا على سيرة الضعف الأولى، وقد استوفت النكبةُ ذمّتَها منا، وباتت كسحابة صيف عن قريبٍ تَقَشَّعُ.
في ذكرى النكبة: أنتظر موضعاً أستطيع أن أرمي فيه سهماً فأصيب به غراباً أبقع، وأفقأ عينَه!
فأنا من جيل عاش حياته الأولى مع من عايش أحداث النكبة الكبرى وكانت أعينهم تفيض من الدمع وهم يسردون المأساة في بكائيات موجعة.
وأكثر ما جرى على ألسنتهم أنهم لم يكونوا يدركون ما الذي يجري حولهم وكيف تدحرجت القوة عليهم وأخرجتهم من أرضهم.
ما زالوا يعتقدون أن القرار الأصوب الذي كان ينبغي اتخاذه هو الصمود في الأرض والتسلّح وتدوير الحرب الشعبية.
يعتقدون أن الجيوش العربية كانت معنية بنزع سلاحهم لاسيما أن معظمها كان تحت استعمار أجنبي أو حلف أمريكي بريطاني.
كثيرون يرون أن أكثر ما جعل العودة بعيدة هو بحث القوى الفلسطينية المؤثرة عن الشرعية السياسية لتمثيل الشعب من خلال ظهر عربي قوي، بينما كانت الظهور العربية تبحث عن ظهر أمريكي أو سوفييتي تركبه وهذا كان يعني أنهم يبحثون عن وساطة وتفاهم مع المحتل الصهيوني.
السبيل الوحيد لاستعادة الأرض هو في تأسيس مربع مقاومة صلب وتفريع كل السياسات عليه عبر مؤشر صاعد حساس لا يقبل انتكاسات أو انكسارات حادة في مؤشرات المقاومة واحتمال ضغوط المسار. هذا المسار هو الأسرع والأقل كلفة إذا قارناه بمسارات التسويات التي لا نهاية منظورة لها ولا تعويضات عن خسائرها الكبيرة المتجددة.
الشعب يفهم الآن وهو قادر على قيادة مسيرة عودته فدعوه يجدّدْ نفسه ويطهرها من عذابات التجارب التي أنهكته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.